كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقديمًا كان خصوم السلفيين يحبون أن يصفوهم بوصف "الحنابلة" إذ إنهم وإن نسبوهم إلى إمامٍ كتبَ الله له الذكر الحسن والثناء الجميل في الأمة؛ إلا أنهم بذلك توصلوا إلى الادعاء بأن المنهج السلفي يدافع عن اجتهادات إمامٍ مسبوق بأئمةٍ غيره.
وفي الحقيقة: إن المنهج السلفي يدافع عن إجماع الصحابة والتابعين، وعن مجمل إنتاج هؤلاء الأئمة دون أن يقدِّس أيًّا منهم، وإنما ينادي بالتزام قول السلف متى أجمعوا على شيءٍ، وإلى الالتزام بالقدر المشترك بيْن أقوالهم فيما اختلفوا فيه.
ثم جاءت الفرصة لخصوم المنهج السلفي أن ينزلوا به رتبة على إثر الحركة الإصلاحية السلفية الشاملة التي قام بها شيخ الإسلام ابن تيمية (661/ 728هـ - 1263/ 1328م) -رحمه الله-، والتي لا زالت الأمة -وعلى رأسها: خصوم ابن تيمية- تستفيد مِن آثارها المباركة، والتي كان لها -بفضل الله- أكبر الأثر في أن تستفيق الأمة بعد كبوةٍ عسكريةٍ وفكريةٍ قاصمةٍ؛ فبدا لخصوم السلفية أن ينسبوها لابن تيمية بدلًا مِن الإمام أحمد (164/ 241هـ - 780/ 855م) -رحمهما الله-، ثم أعادوا الكرَّة مع ظهور حركة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (1115/ 1206هـ - 1703/ 1792م) -رحمه الله-، ولا سيما وقد نُسبت إلى دعوته أمور تحتاج إلى تمحيصٍ وتنقيحٍ، ولا غضاضة في ذلك؛ فمِن أهم قواعد المنهج السلفي تلك المقولة الرائعة للإمام مالك -رحمه الله-: "كلٌّ يُؤخذ مِن قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-، مع الأخذ في الاعتبار أن معظم ما يوجَّه إلى تلك الدعوة مِن نقدٍ إنما يتوجه إلى بعض المتأخرين في تلك الدعوة، بخلاف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نفسه الذي كان كلامه في التبرؤ مِن تكفير جهال المسلمين حتى مَن يتلبس منهم بكفرٍ واضحًا وصريحًا.
الحاصل: أن خصوم السلفية وجدوا بغيتهم في استعمال وصف "الوهابية" لكل مسألة لا تروق لهم، فما مِن مسألة يختلفون فيها مع المنهج السلفي إلا ونسبوها للوهابية، ثم يسوقون تهمًا طويلة خارجة عن سياق الموضوع محل البحث ليتكلموا عن الوهابية، وعن الخلاف بينها وبيْن الدولة العثمانية (مع الأخذ في الاعتبار أن بعض مَن يقول هذا يناصِب الدولة العثمانية ذاتها العداء!)، ثم عن البترول السعودي وأثره في انتشار الوهابية (مع أن كثيرًا ممَن يردد هذا يتكلم عن الروابط التاريخية بيْن مصر والمملكة العربية السعودية)، وهكذا فيكون لسان حالهم ولسان مقالهم: "حسبك مِن شرٍّ أن هذا القول قالت به الوهابية!".
ثم جاءت "داعش" لتكون "مطية" لكل مختلف مع السلفية، مع أن الدواعش يكفِّرون السلفيين!
وهذه المطية يستعملها الغرب في الطعن في الإسلام على أساس أن داعش هي نموذج "الدولة الإسلامية!" -كما تدَّعي-، ويصِّرون على استعمال اسم: "الدولة الإسلامية" في التعبير عن هذا التنظيم؛ رغم أن له اسمًا مختصرًا؛ لتأكيد هذا المعنى عند السامع، ويستعملها العالمانيون في مهاجمة كتب السُّنة، وفقه الأئمة، وشرائع الإسلام، فالبخاري (194/ 256هـ - 810/ 870م) ومسلم (204/ 261هـ - 820/ 875م)، وأبو حنيفة (80هـ/ 150هـ - 699/ 767م)، ومالك (93/ 179هـ - 712/ 795م)، والشافعي (150/ 204هـ - 767/ 820م)، وأحمد، وابن تيمية (بالطبع)؛ كلهم مسؤولون أمام هؤلاء العالمانيين عن فكر "داعش".
والنقاب، بل الحجاب ذاته داعشي، واللحية داعشية، وهكذا... فلا يحاورك أحد في أي مسألة وإلا أرهبك فكريًّا؛ إما أن توافقه، وإما أن يصفك بالداعشية!
وربما أضاف بعضهم تهمًا أخرى مِن نوعية التهم المعلبة أيضًا، منها: تهمة أن السلفية تهتم بقضايا ثانوية، مثل: اللحية، والنقاب و...
ومَن يوجِّه تلك التهمة يجهل أو يتجاهل شمول المنهج السلفي لكل جوانب الدين، وأن هذا المنهج يضع كل مسألة في موضعها وفي حجمها، ولكن ماذا يصنع السلفيون حينما يأتي -وفي واقع الأمة الأليم هذا- مَن لا همَّ له إلا إصدار قانون بتجريم النقاب -مثلًا-: هل يعتبر هذا غلوًّا ممَن تصدى لهذا العدوان أم أنه رد فعل متوقع لا يصح غيره، حتى إن كانت المسألة المطروحة مِن المسائل التى يحلو للبعض أن يصفها بأنها شكلية أو ثانوية؟! وهل يا ترى لو صمتنا عن الهجمة على النقاب -مثلًا- ورضينا بأدنى ما يجزئ في قول أهل العلم وهو الحجاب سيتركوننا وشأننا أم سيسيل لعابهم لمزيدٍ مِن الهجوم والتنمر؟!
ومِن التهم التى توجَّه للسلفية: أن السلفية هي مدرسة الرأي الواحد، وأن السلفيين لا يتقبلون الخلاف، وأنهم لا يكتفون بالانتصار لما يرونه بالحجة والبرهان، بل يتعدون هذا إلى الاغتيال المعنوي للمخالِف، بل وتكفيره!
وليستْ هذه التهم بالمشكلة الكبرى؛ فالحديث حولها حديث مكرور اعتدنا عليه، ولكن المثير للعجب أن تجد أن المخالِف الذي رماك بكل هذه التهم متلبس بها، وبشكلٍ سافرٍ جدًّا!
ولعل هذا يتجلى بشكلٍ واضحٍ جدًّا في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي؛ فهي مسألة متفق على كونها محدثة كما سيأتي مِن الإمامين: السيوطي وابن حجر -رحمهما الله-، وهما على الرغم مِن كونهما ممَن يقول بالمشروعية إلا أنه لم يسعهما إلا الاعتراف بأنها مسألة محدثة لم يفعلها السلف.
فإذا كان الإمام ابن حجر أو الإمام السيوطي -أو غيرهما- يظن أن ثمة دليل يُدخل تلك المسألة المحدثة في باب القربات وتبعهم على ذلك مَن تبعهم؛ أفلا يكون عناية معظم هؤلاء وإصرارهم على إقناع، بل إجبار مَن عمل بالأصل الذى كان عليه السلف إغراقًا مذمومًا في الجزئيات؟!
ثم ألا يكون الولاء والبراء على هذه المسألة "داعشية فكرية" و"اغتيالًا معنويًّا" للمخالِف؟! (نعم وصل بهم الحد إلى اعتبار المسألة مسألة ولاء وبراء، وربما أشد مِن ذلك!).
ومِن أعجب ما يقابلك: أنهم يصوِّرون أن المولد يوم (أحدثه مَن أحدثه) قد تلقته الأمة بالقبول، بل ربما جازف بعضهم فعده إجماعًا؛ هذا مع أن جُل مَن قال بمشروعية المولد قد اعتمد على رسالة الإمام السيوطي (849هـ /1445م - 911هـ / 1505م) -رحمه الله وعفا عنه- المسماة بـ"حسن المقصد في عمل المولد"، وهي رسالة يقرِّر فيها مشروعية عمل المولد، ويناقش فيها الإمام الفاكهاني المالكي السكندري (654/ 734هـ - 1256/ 1334م) الذي قال بالبدعية؛ مما يعني أننا أمام "مناظرة مصرية" خالصة قبْل أن يولد الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115/ 1206هـ - 1703/ 1792م) -رحمه الله- أصلًا!
بل ولا نظن أن لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أثرًا فيها؛ حيث إن الفاكهاني معاصِر لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولا يبدو أنه قد تأثر به أو أخذ عنه، وبالطبع فالعبرة في أية مناقشة بالحجة والبرهان، وليس بجنسية المحاور أو زمنه، ولكن ماذا نفعل في قومٍ يحيدون عن مقارعة الحجة بالحجة إلى مثل هذه الأمور؟! ولا شك أن إبراز مثل هذا السجال في الماضي يبيِّن أن الأمة لم تكن مجمعة على عمل المولد ثم جاءت الوهابية ففرَّقت جمعهم -كما يزعم الزاعمون!-، بل نستطيع -وبشهادة القائلين بالمشروعية أنفسهم- أن نقول: "إن الأمة كانت مجتمعة على عدم عمل المولد؛ إذ لم يكن قد أُحدث بعد، ثم لما أحدث اختلفوا فيه".
والإمام السيوطي -رحمه الله- يقرر أن المولد محدث، وينقل هذا أيضًا عن الإمام ابن حجر (773/ 852 هـ - 1372/ 1449م)، وعن ابن الحاج (773/ 852 هـ - 1372/ 1449 م) -رحمهما الله-، وإن كانا قد ألحقاه بالمشروع مِن باب أنه يشهد له دليل أو آخر -كما سيأتي بيانه بعد قليلٍ إن شاء الله-، ولكن الشاهد أن الأمة كانت مجتمعة على عدم فعل المولد؛ لأنه لم يكن ثمة مولد أصلًا، ثم لما أُحدث اختلفوا فيه.
ويُحسب للإمام السيوطي -رحمه الله- أنه أورد فتوى الإمام الفاكهاني كاملة ثم تعقبها، وسوف أورد فتوى الإمام الفاكهاني ثم أوجز تعقيبات الإمام السيوطي عليها، وأبيِّن وجه الرد عليها -بإذن الله- بقدر ما تستوعبه هذه المقالة.
فتوى الإمام الفاكهاني في بدعية عمل المولد المسماة
(المورد في الكلام على عمل المولد)
قال الفاكهاني -رحمه الله-: "الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء أثر السلف الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهَّر سرائرنا مِن حدث الحوادث والابتداع في الدين، أحمده على ما مَنَّ به مِن أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه مِن التمسُّك بالحبل المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد، فإنه تكرر سؤال جماعة مِن المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه المولد، هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيّنًا والإيضاح عنه معينًا.
فقلتُ -وبالله التوفيق-:
لا أعلم لهذا المولد أصلًا في كتابٍ ولا سنةٍ، ولا ينقل عمله عن أحدٍ مِن علماء الأمة؛ الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون؛ بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبًا أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا أو محرمًا، وليس بواجبٍ إجماعًا ولا مندوبًا؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع مِن غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون المتدينون فيما علمتُ، وهذا جوابي عنه بيْن يدي الله -تعالى- إن عنه سُئِلت، ولا جائز أن يكون مباحًا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين، فلم يبقَ إلا أن يكون مكروهًا أو حرامًا، وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بيْن حالين:
أحدهما: أن يعمله رجل مِن عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام ولا يقترفون شيئًا مِن الآثام، وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة؛ إذ لم يفعله أحدٌ مِن متقدمي أهل الطاعة؛ الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة وزين الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛ لما يجد مِن ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف؛ لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء مِن الغناء -مع البطون الملأى- بآلات الباطل مِن الدفوف والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن، رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:14)، وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين مِن الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه مِن العبادات لا مِن الأمور المنكرات المحرمات، فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ، ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازناه:
قـد عـرف الـمنـكر واستنـكـر المعروف في أيامـنا الصعبة
صــار أهـل العـلم فـي وهـدة وصار أهـل الجهـل في رتبة
فـقلـت للأبـرار أهــل الـتـقى والـديـن لما اشتـدت الـكـربة
لا تـنـكـروا أحوالكم قد أتـت نـوبـتـكـم فـي زمـن الـغــربة
ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخيرٍ ما تعجب مِن العجب، هذا مع أن الشهر الذي وُلد فيه -صلى الله عليه وسلم- وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى مِن الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومِن الله -تعالى- نرجو حسن القبول" (انتهت فتوى الإمام الفاكهاني).
هذا وقد تعقب الإمام السيوطي هذا الكلام بالأمور الآتية:
1- أجاب السيوطي بأنه يرى أن البدع ليستْ كلها مذمومة، بل تنقسم إلى الأحكام الخمسة.
2- أنه لم يحدثه البطالون، ولكن أول مَن أحدثه وفعل ذلك صاحب "إربل" الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين، وهو ملك صالح، وهو زوج أخت صلاح الدين.
3- واعتذر عما دفع به الفاكهاني مِن أن شهر وفاته هو شهر مولده فهل يفرحون أو يحزنون؟ بأن الشرع أمرنا بإظهار الفرح والشكر عند النعمة بالعقيقة ونحوها، ولم يأمرنا عند المصيبة إلا بالصبر؛ فمتى اجتمعا، فالمطلوب إظهار النعمة.
4- نقل عن ابن الحاج تخريجه على صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- ليوم الاثنين، ونقل عنه اعتذاره مِن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخص شهر ربيع الأول بشيءٍ مِن العبادات تخفيفًا على أمته.
5- نقل الإمام السيوطي عن الإمام ابن حجر -رحمهما الله تعالى- أنه قرر أن المولد محدث، لم تعرفه القرون الثلاثة الأولى، ولكنه يمكن أن يخرّج على صوم يوم "عاشوراء" شكرًا لله على نعمة نجاة موسى -عليه السلام-، فيُؤخذ منه الشكر عند النعم.
6- أضاف السيوطي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عقَّ عن نفسه، بينما كان جده عبد المطلب قد عقَّ عنه، وفيه إشارة إلى أن تلك العقيقة الثانية شكر خاص لله على نعمة ميلاده -صلى الله عليه وسلم-.
7- ونقل عن ابن الجزري أنه استدل على جواز المولد بما ورد أن العذاب يخفف عن أبي لهب يوم الاثنين مِن كل أسبوع؛ لأنه أعتق ثويبة لما بشَّرت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم مولده.
هذا ملخص جواب الإمام السيوطي -رحمه الله- على الإمام الفاكهاني، وإليك مناقشة الإمام السيوطي فيما قال:
1- موضوع البدعة سيأتي التعليق عليه في الفقرة التالية -إن شاء الله-.
2- بالنسبة لقضية مَن أول مِن أحدث المولد:
إن الثابت تاريخيًّا: أن أول مَن أحدث المولد هم الفاطميون كما ذكر ذلك المقريزي في المواعظ والاعتبار، ثم إن صلاح الدين -رحمه الله- قد أبطل موالد الفاطميين؛ إلا أن زوج أخته الذي كان واليًا على إربل مِن أعمال العراق قد استحسن إعادة المولد، وعضده في ذلك ابن دحية مِن علماء الأندلس.
وقد ذكر العلماء فى ترجمة المظفر الكثير مِن الثناء في إنفاقه عمومًا "وفي المولد النبوي خصوصًا"، ونقل السيوطي عن سبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان": "حكى بعض مَن حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه عدَّ في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم شوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة فرس، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى" (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان).
ولا أدري: هل هذا مِن ماله أم هو مِن جنس الاحتفال الذي يكون مِن أموال الناس الذي قال الإمام "الفاكهاني" في شأنه: "لا يختلف على تحريمه اثنان"؟!
وهذا السؤال يجيبك عنه "ياقوت الحموي" في "معجم البلدان" فيقول عن هذا الملك المظفر: "وطباع هذا الأمير مختلفة متضادة؛ فإنه كثير الظلم، عسوف بالرعية، راغب في أخذ الأموال مِن غير وجهها، وهو مع ذلك مفضل على الفقراء، كثير الصدقات على الغرباء، يسيّر الأموال الجمّة الوافرة يستفكّ بها الأسارى مِن أيدي الكفار، وفي ذلك يقول الشاعر: ... ".
وعمومًا هذه قضية ثانوية، وإنما حرصتُ على التعليق عليها؛ لأن بعض مَن اغتر بكلام السيوطي أخذ يشنِّع على "الوهابية" أنهم يكذبون ويحاولون إلصاق المولد بالفاطميين؛ لكي يصرفوا الناس عنه، وهو إنما (أحدثه) زوج أخت صلاح الدين، فأردتُ أن أوضِّح أن هذه النقطة ليستْ كذبًا، بل هي واقع كما ترى.
3- وأما مسألة أن شهر المولد هو نفس شهر الوفاة، فالسيوطي تعامل مع المسألة على أننا ملزمون بعملٍ شيءٍ ما في شهر الميلاد، ثم بحث عن مخرجٍ لكون هذا الشهر هو بعينه شهر الوفاة!
وهذا الشعور بهذا الإلزام كافٍ جدًّا في بيان أنه "بدعة" وزيادة في الدين، ولكن مِن باب التنزل نقول: طالما أن لدينا -كما يرى السيوطي- حرية (الإحداث في الدين!)؛ فلماذا ضاقتْ بنا السبل؟! ولماذا -مثلًا- لا نجعل يوم البعثة هو يوم شكر نعمة إرسال النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
وعمومًا فهذه النقطة كسابقاتها لم تكن تستحق عناء الرد؛ لولا أن بعض المعاصرين عدَّ هذا الاعتراض مِن تشنجات الوهابية؛ رغم ان هذا الاعتراض قد ساقه وأورده الفاكهاني -كما مرَّ- قبْل ظهور الوهابية بقرونٍ!
4- مسألة التخريج على صيام يوم الاثنين هي دليل على المنع لمَن تأمل؛ لأنه يجعل الاحتفال بيوم مولده السنوي -صلى الله عليه وسلم- ليس مجرد زيادة لا أصل لها، بل عدول عن المشروع إلى غيره مِن جهتين:
الأولى: العدول عن يوم مولده الأسبوعي إلى السنوي، وهذا نوع مِن التقتير والإخلال لا يَخفى، ويترتب عليه أمر آخر، وهو: أن مولده الأسبوعي ثابت في الحديث الصحيح، بينما يوم مولده مِن العام مختلف فيه اختلافًا شديدًا، وسبب هذا: أن الصحابة قلَّت عنايتهم بضبط ما لا يترتب عليه حكم تشريعي كـ"تواريخ الوقائع"؛ سواء التي كانت قبْل البعثة أو التي حدثتْ بعدها.
الثاني: العدول عن الصفة المشروعة مِن الصيام إلى ضده مِن التوسع في الطعام والشراب والحلوى، وأما تعليل هذا بالرغبة في التخفيف فيتنافى مع أن المشروع (صيام أسبوعي) والمحدث (طعام سنوي)؛ فأيهما أيسر على الناس؛ لا سيما والباب أصلًا مِن أبواب المستحبات؟!
5- وأما القياس على صوم يوم عاشوراء؛ لأنه يوم نجَّى الله فيه موسى -عليه السلام-: فلو تأملنا لوجدناه حجة علي المنع لا على المشروعية؛ وذلك أن هذا اليوم فقط هو الذي اعتنى به الصحابة، وعلى الوجه المبيَّن في الشرع، مع أنهم عايشوا نجاة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الهجرة، ونصره يوم بدر، ونجاته مِن القتل يوم "أُحد" بعد ما أشيع عن مقتله، وهمْ مع ذلك منهم مَن يصوم يومًا ويفطر يومًا، ومنهم مَن أراد أن يزيد على ذلك كعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- حتى نهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، ومنهم مَن يصوم الاثنين والخميس، ومنهم... ومنهم... بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى أبا هريرة -رضي الله عنه- مع انشغاله بخدمته -صلى الله عليه وسلم- ألا يدع صيام ثلاثة أيام مِن كل شهر؛ فماذا كان يضيره أن يضيف إليها في شهر ربيع الأول يومًا آخر؛ لا سيما وهو قبلها؛ إذ المستحب فى صيام ثلاثة أيام مِن كل شهر أن تجعل أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وهذا أنس -رضي الله عنه- يخبر: أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ: فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءُ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدباءَ بعد يومِئذٍ" (متفق عليه)، فهو -رضي الله عنه- قد أحب الدباء لمجرد معرفته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أكلها؛ أفكان يعجزه أن يتحرى صيام يوم المولد أو يوم أُحد -أو غيره- لو كان الصحابة -رضي الله عنهم- قد فهموا أن صيام يوم عاشوراء يصلح أن يُقاس عليه الأيام التي امتن الله فيها على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالميلاد أو البعثة أو النجاة مِن الأعداء أو النصر عليهم؟!
6- وأما مسألة تكرار النبي -صلى الله عليه وسلم- للعقيقة؛ فلم يثبت أصلًا أن جده عبد المطلب عقَّ عنه، ولا أنه -صلى الله عليه وسلم- عقَّ عن نفسه ثانية، ولو ثبت لما كان لهذه المسألة أي دلالة أكثر مِن مشروعية العقيقة، ويكون إعادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لها على فرض حدوث ذلك مِن باب أن تُفعل بنيةٍ منه حتى تكون قربة؛ لأنه على فرض أن جده قد فعلها، فقد كان هذا مِن كافرٍ، وكان قبْل بعثته -صلى الله عليه وسلم-.
7- وكذلك التخفيف عن أبي لهب كل يوم اثنين لعتقه ثويبة لما بشرته بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يصح، ولو صح لما كان فيه دلالة، ولو كانت فيه دلالة ستكون لتعظيم يوم الاثنين مِن كل أسبوع، وهو ثابت شرعًا بالحديث الصحيح ولا يحتاج إلى مثل هذه الاستدلالات، وبطبيعة الحال لا يمكن أن تدل بحالٍ على شيء يتعلق بشهر ربيع الأول.
مناقشة مَن يرون جريان الأحكام الخمسة في باب البدع:
تذرع السيوطي -رحمه الله- في هذه الرسالة بقول مَن قال مِن العلماء: إن البدعة تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة؛ كل مسألة بحسب الدليل.
وهذا الكلام إذا تتبعت أمثلته التي يذكرها العز بن عبد السلام (577/ 660هـ - 1181/ 1262م) أو السيوطي -رحمهما الله- أو غيرهما كلام مسلَّم وواضح، ولكن تلاحِظ مِن الأمثلة التي يذكرونها أنهم يتعاملون مع كل المسائل الحادثة على أنها بدعة، وبالتالي لا يصعب عليهم ضرب مثال لبدعةٍ (أي: أمر حادث) تندرج تحت كل حكم مِن الأحكام التكليفية الخمسة، وهذا الكلام بهذا الاعتبار لا غبار عليه، ولا يختلف عليه أحد، وهذا ما حدا ببعض الباحثين مثل الشيخ "علي محفوظ" -رحمه الله- أن يقول: "إن الخلاف بيْن الفريقين لفظي".
والواقع: إنه من قسم البدعة اللغوية إلى أقسامها الخمسة، فقد قال كلامًا في ذاته صحيحًا، بل ويكاد يكون مجمعًا عليه؛ إلا أنه يكون قد سكت عن مسألةٍ يكثر الخلاف في جزئياتها -على الأقل-، وربما بعد ما تنقح مذهب بعض مَن يصدر هذا التقسيم تجده يرى أن كل المحدثات في الدين ضلالة، وبالتالي يكون الخلاف معه لفظيًّا، والبعض قد تجد عنده مساحة مِن القبول لتلك المُحدثات رغم أنهم غالبًا ما يعجزون عن وضع ضابط للتفريق بيْن ما يقبلون وما يرفضون في المحدثات الدينية، وغالبًا ما يلجأون إلى الاستحسان سواء مِن قِبَل أنفسهم أو مِن قِبَل الناس، كما يتمسك البعض بهذا في مسألة المولد وغيرها.
ولتحقيق مذهب مَن يعتمد هذا التقسيم نحتاج أن نسأله صراحة عن أمورٍ، منها:
- ما هي الأحكام المستفادة مِن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه مسلم): هل يقر بعموم "كل" المخصوص بأن البدعة المشمولة بـ"كل" هي البدعة الدينية أخذًا مِن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)، فهذا سيكون الخلاف معه لفظيًّا؟ أم أنه يعيد الكلام على الأقسام الخمسة؛ مما يعني تفريغ هذا الحديث مِن أي فائدةٍ، وسحب عموم "كل" إلى لا شيء البتة إلا ما ثبت "تحريمه" في موطنٍ آخر؟ وبالتالي فلن يكون الخلاف معه لفظيًّا.
- ويتضح هذا بسؤالٍ أوضح، وهو: هل يقر بما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي -رحمهما الله- ونقلا إجماع الأمة عليه مِن كون العبادات توقيفية أم لا؟!
وإذا أقر بكون العبادات توقيفية؛ فهل يلتزم بأن زيادة عبادة أو زيادة صفة فيها أو تخصيص زمانٍ أو مكانٍ بعبادةٍ بغير مخصصٍ هو نوع مِن الخروج عن هذا التوقيف كما في أثر ابن مسعود -رضي الله عنه-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ!" (رواه الدارمي، وصححه الألباني)؟!
- ويُضاف إلى هذا سؤال آخر حول تتمة القاعدة مِن أن الأصل في المعاملات الإباحة، ولا نظن أنهم ينازعون فيها، ولكن السؤال سوف يتوجه إلى أن شرط إجراء هذه القاعدة: أن تفعل المباحات على أنها مباحات، فإن أراد صاحبها التقرب بها لذاتها؛ فهذا يدخلها في باب البدع كما في حديث أبي إسرائيل -رضي الله عنه- الذي "نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ". فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) (رواه البخاري).
- وأما اعتبار بعض المباحات مِن باب المصالح المرسلة؛ فلابد فيها مِن ألا يكون المقتضي موجودًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو كان موجودًا وكان معه مانع، وهذا الضابط وإن كان يستعمل لضبط قاعدة المصلحة المرسلة حتى لا تتحول إلى استحسانٍ مذمومٍ أو تشريع ما لم يأذن به الله؛ فإنها أيضًا تصلح للتمييز بيْن البدع والمصالح المرسلة عند مَن يشتبه عليه أمرهما
- الحاصل: أن مَن يلوذ بتقسيم البدعة اللغوية إلى أقسامٍ خمسة سيحوجك إلى طرح أسئلة أو إلى السعي عن الإجابة عليها بطريق الاستقراء، وكثير مِن هؤلاء الأئمة سوف تجد أن منهجه التفصيلي قريب أو موافق لهذه الأدلة في الجملة، وهو ما قد يعزز مسلك مَن يقول: "إن الخلاف لفظي".
- ولكن سيبقى أن مِن أكثر الأمور إثارة للجدل: الأعياد والمواسم، ونحوها، بناءً على أن بعض العلماء لا سيما الذين تأثروا بطوفان الأعياد والمواسم التي أحدثها الفاطميون، ولعلهم وجدوا أنها حتى بعد زوال حكم الفاطميين أنها مناسبات تظهر فيها عاطفة دينية عند أقوامٍ معرضين عن تعلُّم العلم وسماع الموعظة، فمالوا إلى استحسانها عقلًا وطبعًا، مع أنهم أنفسهم هم مَن صرَّح أن كثيرًا ممَن استهدفوهم بهذه المناسبات أخذوا منها حظهم مِن المباحات طعامًا وشرابًا، وربما مِن المعاصي معازفَ ونظرًا، ولم يخرجوا منها بأي فائدة!
- ومثار المشكلة: أن العيد يجمع معنى العبادة ومعنى العادة، فهل سنغلِّب جانب العبادة، وبالتالي ندخلها في قاعدة: "أن الاصل التوقيف" أم نغلِّب جانب العادة وندخلها في قاعدة: "أن الاصل الإباحة"؟!
ولعل سبب غلط كثير ممَن تعرض للمسألة: أنه لم يفطن إلى أن هذه المسألة فيها نص خاص، وأنه لا يحتاج فيها إلى إجراء تلك الموازنة بعقله أو بإعمال نظره؛ وذلك لأن الدليل قد دلَّ على أن الأعياد توقيفية، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟) قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وهناك مَن يقترح أن نخرج مِن هذه المعضلة بأن تسمَّى هذه المناسبات المخترعة بيوم كذا... بدلًا مِن عيد كذا... ! مع أن مسمَّى "اليوم" هو الذي ورد في حديثنا هذا، والذي بيَّن لهم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله أبدلهم خيرًا منهما؛ ذلك أن العبرة بالمعاني والحقائق لا بالمسميات.
ومِن ثَمَّ تعلم: أن مجرد وجود ليلة فاضلة مرة في العمر كالليلة التي حدثت فيها واقعة الإسراء -مثلًا- لا يدل على أن هذه الفضيلة تدور مع الزمان، وتتكرر كل عام؛ فهذا تخصيص لا يأتي إلا مِن جهة الشرع، ولا يدخله القياس، كما أنه حتى الليالي التي لها فضيلة تتكرر كل عام مثل ليلة النصف مِن شعبان، لا يلزم أن تُخص بعادةٍ ما أو بعبادةٍ ما؛ ذلك أن الشرع نوَّع فيما يتعبد الناس به في الأيام والليالي الفاضلة؛ فتارة يشرع الصيام، وتارة يشرع التوسعة في الطعام والشراب إلى الحد الذي يحرم معه الصيام؛ ولذا لما عدل أصحاب المولد عن الهيئة الشرعية مِن تعظيم يوم مولده الأسبوعي -صلى الله عليه وسلم- بالصيام إلى تعظيم يوم مولده السنوي جعلوه طعامًا وشرابًا، ثم غلبهم عليه الصوفية والبطالين؛ فجعلوه رقصًا وغناءً!
وكون باب الأعياد توقيفيًّا كافٍ في الحكم على أي عيدٍ غير المنصوص عليه شرعًا بأنه بدعة، وغالبًا ما يزيد عليها مسوغ آخر للتحريم كأن يكون الغالب على الاحتفال بها هيئات منكرة أو أن تكون أعياد مشركين أو أن تكون مضاهاة لأعياد المشركين، كما في كل الأعياد المرتبطة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا سيما مولده؛ فإنه فيه مضاهاة للنصارى.
وهذه نكتة أخرى في المسألة: أن الصوفية وهم في الغالب مَن يعنون بهذه المناسبات قد وضعوا قول البوصيري نصب أعينهم حيث قال:
دع ما ادعـته الـنـصارى فـي نبيهـم واحـكـم بما شئت مدحًا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت مِن شرفٍ وانسب إلى قدره ما شئت مِن عِظَم
ولا شك أن البوصيري نهاهم عن صورةٍ فجة مِن صور الشرك، ولكنه أباح لهم بعد ذلك أن يتوسعوا في المدح ولو بأمورٍ لم تثبت كتابًا وسنة، بل بأمورٍ ثبت في الكتاب والسُّنة ضدها!
وبالتالي؛ فغالبًا ما تكون البدع في هذه المناسبات مركبة مِن عدة بدعٍ، مع أنها لو تصور أنها اقتصرتْ فقط على تخصيص زمان بدون مخصصٍ؛ لكان كافيًا للمنع منها.
سؤال وجوابه:
المولد قد أحدث في زمن الفاطميين في آخر القرن الرابع الهجري، وإذا اخذنا بقول مَن يقول: إنه إنما أحدثه الملك المظفر، فسيكون هذا في بداية القرن السابع الهجري.
والسؤال: لماذا لم تشعر الأمة طوال ثلاثة قرون أو سبعة بحاجتها إلى شحذ حبها للنبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
والجواب: إن الأمة لم تشعر أنها بحاجة إلى إحداث شيءٍ تُحقق به حبها للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم كانوا منشغلين بلوازم المحبة الحقيقية المجمع عليها، ومنها:
1- الجهاد في سبيل نشر دين النبي -صلى الله عليه وسلم-.
2- جمع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحمايتها مِن وضع الوضاعين، وكذب الفاسقين، بل ومِن اختلال حفظ مَن يختل حفظه مِن الصالحين.
3- خدمة هذه السُّنة دراية بشرحها واستنباط الأحكام منها.
4- تقرير حجية هذه السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ورد شبهات مَن أراد أن يُضعِف مكانة هذه السُّنة أو يُعرض عنها.
5- صيانة سنته -أي: طريقته- مِن كل ما نُسب إليها مِن بدعٍ دخيلةٍ؛ سواء كانت بدعًا اعتقادية أو تعبدية أو سلوكية.
6- كتابة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله وأخلاقه، وتعليم هذا للكبير والصغير.
7- الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أذكار الصباح والمساء، وفي الخطب والدروس وعند ذكر اسمه في مجالس الوعظ ومجالس التحديث.
8- الذب عن عرض أمهات المؤمنين، وعرض الصحابة أجمعين، وآل البيت الأطهار مِن كل ما تقوله عليهم الزنادقة والمنافقون، ومَن تبعهم مِن الجهال.
9- وإن كان ولابد مِن مولدٍ؛ فقد دخل في سنته الصحيحة تعظيم يوم مولده الأسبوعي، بصيام اليوم الذي وُلد فيه -صلى الله عليه وسلم-، وهو يوم الاثنين -كما تقدم-.
تنبيه: هيئة في المولد مجمع على تحريمها:
احتج مَن يجوزون المولد بكلام السيوطي -رحمه الله-، وزعموا أن مخالفهم وهابي لا يَعرف أن علماء الأمة قد استحسنوا المولد، إلى آخره.
وبيَّنا أن السيوطي نفسه -رحمه الله- بيَّن مَن يوافقه ومَن يخالفه، وأبرزهم: الفاكهاني، وأن الفاكهاني عدَّ صورة مِن المولد وصفها بأنها لا يمكن أن يختلف اثنان على تحريمها.
وقد وافقه السيوطي على أن المولد يحدث فيه مخالفات، ولكنه تعقبه بما معناه أن هذا المولد يُتصور بأن يكون تذكيرًا بسيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وإطعامًا مِن غير هذه المنكرات، واستحسن تفصيل ابن الحاج الذي بالغ في إنكار المولد إن تضمن هذه المخالفات، وقرر مشروعية المولد الذي فيه التذكير بسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وشيء مِن الطعام وفقط.
وهذا كلامه -رحمه الله-، قال: "وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج في كتابه "المدخل" على عمل المولد، فأتقن الكلام فيه جدًّا، وحاصله مدح ما كان فيه مِن إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه مِن محرمات ومنكرات، وأنا أسوق كلامه فصلًا فصلًا، قال:
فصل في المولد: ومِن جملة ما أحدثوه مِن البدع مع اعتقادهم أن ذلك مِن أكبر العبادات وإظهار الشعائر، ما يفعلونه في شهر ربيع الأول مِن المولد، وقد احتوى ذلك على بدعٍ ومحرماتٍ جمةٍ؛ فمِن ذلك: استعمالهم المغاني ومعهم آلات الطرب مِن الطار المصرصر، والشبابة، وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع، ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون أكثر الأزمنة التي فضَّلها الله -تعالى- وعظمها ببدعٍ ومحرماتٍ، ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه؛ فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله -تعالى- وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم؟! فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينها وبيْن هذا الشهر الكريم الذي مَنَّ الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين، وكان يجب أن يُزاد فيه مِن العبادة والخير شكرًا للمولى على ما أولانا به مِن هذه النعم العظيمة".
إلى أن قال: (وما زال الكلام لابن الحاج): "وقد ارتكب بعضهم في هذا الزمن ضد هذا المعنى، وهو أنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى اللهو واللعب بالدف والشبابة وغيرهما، ويا ليتهم عملوا المغاني ليس إلا، بل يزعم بعضهم أنه يتأدب، فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز، وينظرون إلى مَن هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المبهجة لطرب النفوس، وهذا فيه وجوه مِن المفاسد، ثم إنهم لم يقتصروا على ما ذكر، بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر، الخطر، وهو أن يكون المغني شابًا لطيف الصورة، حسن الصوت والكسوة والهيئة، فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته، فيفتن بعض مَن معه مِن الرجال والنساء، فتقع الفتنة في الفريقين ويثور مِن المفاسد ما لا يُحصى، وقد يؤول ذلك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال الزوجة، ويحصل الفراق والنكد العاجل، وتشتت أمرهم بعد جمعهم، وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع؛ فإن خلا منه وعمل طعامًا فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان، وسلم مِن كل ما تقدم ذكره، فهو بدعة بنفس نيته فقط؛ لأن ذلك زيادة في الدين وليس مِن عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى، ولم ينقل عن أحدٍ منهم أنه نوى المولد، ونحن تبع فيسعنا ما وسعهم".
ملاحظة: أشار السيوطي إلى أن ابن الحاج بدأ كلامه باستنكار ما يكون في المولد مِن منكراتٍ، واستحسان زيادة الطاعات في شهر ربيع الأول، ثم عاد فقال: "وعلى فرض أنه خلا مِن المنكرات؛ فهو بدعة"، وهي عبارة مشعرة بنوعٍ مِن التناقض مع صدر الكلام، وبيَّن أنه لو أردنا الجمع بيْن أول كلامه وآخره فلابد وأن تحمل البدعة هنا في كلامه على البدعة الحسنة.
قلتُ: والأقرب أن كلامه الأول مِن استحباب تخصيص شهر ربيع الأول بطاعاتٍ هو نوع مِن التجاري مع مَن سوَّغ البدعة بهذه الذريعة ثم قلب احتفاله زمرًا وطبلًا، فكأنه جاراه ليستنكر عليه الهيئة التي يفعلعها ثم بيَّن له أن تلك الهيئة التي ادعاها ولم يلتزم بها، لو التزم بها لكانت أهون مما يفعلون، ولكنها في ذاتها بدعة.
وعلى أية حال فالمقصود هنا: بيان اتفاق الجميع على إنكار صورٍ نرى أنها صارت هي الصورة الأكثر شيوعًا فيما يفعله الناس مِن حفلات في المولد، وربما كانت الصورة المشروعة لدى السيوطي قاصرة في واقعنا الآن على بعض الأمسيات التي تُعقد في بعض المساجد.
تنبيه حول موقف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
معلوم أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ممَن يقولون بعدم المشروعية، ولكن انظر إلى سعة أفقه في تعامله مع مَن خالفه رغم شدة عباراته أحيانًا في تقرير السُّنة وذم البدعة، وانظر إليه حينما يعامِل المخالِف لتعرف حقيقة دعوى اتهامه بأنه مسؤول عن فكر "داعش" والتكفير، إلى آخره!
وقارن بيْن كلامه -رحمه الله- وبيْن كلام كثيرٍ ممَن يصفه بالداعشية، وانظر إليهم وهم يرهبون كل مَن خالفهم في شأن مشروعية المولد؛ لتعلم أي الفريقين أولى بأن يوصف بالحلم وسعة الصدر، ومحاولة لم شتات الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم: "فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قدَّمته لك أنه يحسن مِن بعض الناس ما يستقبح مِن المؤمن المسدد. ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة. وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط. وليس مقصود أحمد هذا، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كره لأجلها. فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفسادٍ لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتابٍ مِن كتب الفجور، مِن كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم.
فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال مِن المصالح الشرعية، والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بيْن جنس المعروف، وجنس المنكر، أو جنس الدليل، وغير الدليل، يتيسر كثيرًا".
وقد بلغ مِن حسن تطبيق شيخ الإسلام -رحمه الله- لقواعد الشرع في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والموازنة بيْن المصالح والمفاسد، ما جعل بعضهم يطمع في أن ينتزع مِن هذا الكلام شاهدًا على أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرى مشروعية المولد! وهو تعسف لا يمكن أن يقول به مَن قرأ كلامه بتمامه، ولكن تلك قاعدة سلفية ذهبية: "أن أهل السُّنة والجماعة، يعرفون الحق ويرحمون الخلق".
نسأل الله أن يجعلنا كذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.