الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 21 يوليه 2025 - 26 محرم 1447هـ

لا يستوون عند الله (3)

كتبه/ أحمد مسعود الفقي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فما زال الحديث موصولًا حول الأدلة على عدم التسوية بين المؤمنين والكافرين؛ قال الله -تعالى-: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (هود: 24).

تَتِيه الروح في الظلمات إذا ما تعامَت عن آيات الله وتصامَّت عن سماعها كما يتحيَّر الجسد في مصالحه إذا لم يكن ذا سمع وبصر، والمتشكِّك في تباين فريق الحق وفريق الباطل غير عاقل، وهو عن معرفة حقائق الأمور غافل.

قال الإمام الطاهر بن عاشور: "شَبَّه الله حالَ فَرِيقِ الكُفّار في عَدَمِ الِانْتِفاعِ بِالنَّظَرِ في دَلائِلِ وحْدانِيَّته الواضِحَة مِن مَخْلُوقاتِه بِحالِ الأعْمى، وشُبِّهُوا في عَدَمِ الِانْتِفاعِ بِأدِلَّةِ القُرْآنِ بِحالِ مَن هو أصَمُّ.

وشَبَّه حالَ فَرِيقِ المُؤْمِنِينَ في ضِدِّ ذَلِكَ بِحالِ مَن كانَ سَلِيمَ البَصَرِ، سَلِيمَ السَّمْعِ فَهو في هُدًى ويَقِينٍ مِن مُدْرَكاتِه، وجُمْلَةُ (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) واقِعَةٌ مَوْقِعَ البَيانِ لِلْغَرَضِ مِنَ التَّشْبِيهِ، وهو نَفْيُ اسْتِواءِ حالِهِما، ونَفْيُ الِاسْتِواءِ كِنايَةٌ عَنِ التَّفْضِيلِ والمُفَضَّلِ مِنهُما مَعْلُومٌ مِنَ المَقامِ، أيْ: مَعْلُومٌ تَفْضِيلُ الفَرِيقِ المُمَثَّلِ بِالسَّمِيعِ والبَصِيرِ عَلى الفَرِيقِ المُمَثَّلِ بِالأعْمى والأصَمِّ. والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ، على من سَوَّى بينهما.

ثم نفى -سبحانه- التسوية بين أهل الجنة وأهل النار بأبلغ أسلوب، فقال -تعالى-: (أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (القصص: 61).

فالاستفهام للإنكار ونفي المساواة بين الفريقين، والمراد بالوعد: الموعود به وهو الجنة ونعيمها؛ أي: إنه لا يستوي في عُرف أي عاقل، حال المؤمنين الذين وعدناهم وعدًا حسنًا بالجنة ونعيمها، وهم سيظفرون بما وعدناهم به لا محالة، فقد يعوق المخلوقَ الوفيَّ عن وعده عوائق، ولكن الله -تعالى- إذا وعد لم يقف أمام وعده عائق، فإنه إذا وعد وفَّى، ومتى أعطى كفى وأغنى.

وقوله -سبحانه-: (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي: ثم هذا الذي متَّعناه بمتاع الحياة الدنيا الزائل، هو من المحضرين لعذابنا في النار، وهذا التعبير يُشعِر بإحضاره إلى النار وهو مُكرَه خائف، من العذاب المهين الذي أُعِدَّ له، فمن كانوا بمتاع الدنيا متعلِّقين، ولأهوائهم مُؤثِرين، وللهدى غير متَّبِعين، وردوا العذاب مُكرَهين خائفين.

وقال -تعالى-: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 162). أَيْ: لَا يَسْتَوِي مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ فِيمَا شَرَعَهُ، فَاسْتَحَقَّ رِضْوَانَ اللَّهِ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ وأُجِيرَ مِنْ وَبِيلِ عِقَابِهِ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ غَضَبَ اللَّهِ وأُلْزِمَ بِهِ، فَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ، وَمَأْوَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، والاستفهام إنكاريٌّ بمعنى النفي، فلا يستوي في حكم الله وحكمته، وفِطَر خلقه وعباده، من كان دأبه طلب ما يُرضِي ربه، ومن كان مُكِبًّا على مخالفته وعصيان أمره.

وقد ساق -سبحانه- هذا الكلام الحكيم بصيغة الاستفهام الإنكاريّ، للتنبيه على أن عدم المساواة بين المُحسِن والمسيء أمر بديهيٌّ واضح لا تختلف فيه العقول والأفهام، وأن أي إنسان عاقل لو سُئِل عن ذلك لأجاب بأنه لا يستوي من اتبع رضوان الله مع من رجع بسخط عظيم منه بسبب كفره أو فسقه.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.