الألباني.. إمامُ الحديث في العصر الحديث (6)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد هاجر الحاج نوح بأولادِه من بلدتِه إشقودرة عن طريق البحر، فركبوا الباخرةَ من مِيناءِ دوريس بألبانيا إلى بيروت، ثم انتقلوا بالعَرَباتِ من بيروتَ إلى الشَّام.
وهنا يُذكِّرُنا حفيدُ الحاج نوح الشَّيخُ عبد الله آدم الألبانيُّ -حفظه الله- بمَوقفٍ إيمانيٍّ عظيمٍ قائلًا: "عندما هَمَّ جَدِّي الحاج نوح بالهجرةِ من إشقودرة استوقفه أهلُ بلدتِه مُتَسائلِين: إلى أين أنت ذاهبٌ بأولادِك -يا حاج نوح-؟ هل تخافُ أن تَكفُر؟ فأجابهم قائلًا: أنا لا أخافُ على نفسي، وإنَّما أخافُ أن يَكفُرَ أولادي".
فقال الشَّيخُ عبدُ اللهِ مُعلِّقًا على كلماتِ جدِّه قائلًا: "لو استحضر جدِّي قولَ النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) (رواه مسلم)، لَأجابَهم بقَولِه: نعم، أخافُ على نفسيَ الكُفر".
ثم استطرد قائلًا: "فإمامُ الحُنَفاءِ إبراهيمُ -عليه السَّلام- قال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، فقد خاف -عليه السَّلام- على نفسه وبنيه أن يعبدوا الأصنام، وعن النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- فيما روى عن اللهِ -تبارك وتعالى- أنَّه قال: (يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ) (رواه مسلم)؛ فينبغي على العبدِ أن يَطلُبَ الهدايةَ مِن ربِّه كُلَّ يومٍ كما يحرصُ على الطَّعامِ والشَّراب".
ولكن ينبغي أن نقولَ هنا مُلتمسِينَ العُذرَ لِلحاج نوح: لقد ساقته فِطرتُه إلى أن يقولَ: "لا أخافُ على نفسي، وإنَّما أخافُ على أولادي"، وهذه عادةُ الأبِ في تقديمِ حُبِّ أولادِه على نفسِه، لِأنَّ حُبَّهُ لهم حُبُّ فِطرةٍ، أو لعلّه اكتفى بذكر الخوفِ على أولادِه مِن بابِ أنَّهم لا يزالون صِغارًا، ولَم يَتمكَّنُوا من تعاليمِ دينِهم، ولَم يَتمرَّسُوا بشدائدِ الحياةِ، فخاف عليهم الفِتنةَ في دينِهم، أو أنَّ هذه الأجواءَ المُتوتِّرةَ، وهذا الزِّحامَ من الأفكارِ والأعباءِ؛ جعله في حالةِ عدمِ استقرارٍ في التَّفكير، مِمَّا حمله على أن يقولَ: أنا لا أخافُ الكُفرَ على نفسي، وإنَّما أخافُ على أولادي.
ولمَّا وصل الحاج نوح إلى بلادِ الشَّامِ ما وجد أمامه إلا الغُرَفَ المُخصَّصةَ لِطُلّابِ العِلْم، التي كانت تُجاوِرُ المساجدَ، وكانوا يتَّخِذُونَها سَكَنًا لهم، وكان هذا هو النِّظامَ المَعمُولَ به أيّامَها -نَضَّرَ اللهُ تلك الأيّام-، فاضْطُرَّ الحاج نوح إلى أن يأويَ إليها بأولادِه.
وإلى لقاءٍ آخَر -بإذنِ الله-.
وعلى اللهِ قصدُ السَّبيل.