كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلقد اعتاد الإسبان أن يحتفلوا كل عام بـذكرى "استعادة غرناطة"، أو ذكرى "الاسترداد!"؛ وهذا الاحتفال يوافق الثاني من شهر يناير من كل عام، ونريد في هذا المقال أن نسلِّط الضوء على أحد أهمِّ أسباب سقوط بلاد الأندلس، وضياعها من أيدي المسلمين، بعد أن حكموها ثمانية قرون كاملة.
فلقد حرَّم الإسلام الخيانة ونهى عنها؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال:27)، وقال: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال: 58).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الولاء والبراء أوثق عُرى الإيمان، فإذا انحلت هذه العروة أصاب الإيمانَ خللٌ؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا: (أوْثَقُ عُرَى الإِيمانِ الموَالاةَ فِي الله والمعاداة فِي الله والحبُّ فِي الله والبُغْضُ فِي الله) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
وقد نهى الله -تعالى- عن موالاة أعداء الإسلام، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51).
ومفهوم الولاء والبراء يحقق للأمة الإسلامية تماسكها ووحدتها وعزتها، وعدالتها مع خصومها، فيحدد طبيعة العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين في الخارج أو الداخل، ففي ميدان العقيدة لا مساومة فيها مع أي دين آخر، فلا موالاة في تعدد الآلهة، أو التثنية، أو التثليث، أو التجسيم كما فعلت اليهود والنصارى، ومبدأ الإسلام واضح: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6)، ومن هنا تتحرر الأمة من استعمار أعدائها، وتستقل بأوطانها ومبادئها وكرامتها عن التبعية المهينة.
ومن استقرأ صفحات التاريخ الأندلسي، يقف على مجموعة من الحقائق والأسباب التي أسهمت بشكل كبير في سقوط دولة الإسلام، وذلك بعد ثمانية قرون، دار فيها التاريخ دورته.
ورغم تعدد أسباب سقوط دولة الإسلام في الأندلس؛ إلا أنني أسلِّط الضوء على واحد من أهم تلك الأسباب، وهو: خيانة بعض أبناء الأمة للأمة، وأضرب على ذلك بعض النماذج باختصار وإيجاز.
سليمان بن يقظان الكلبي المعروف بالأعرابي:
في عصر عبد الرحمن الداخل والمعروف بصقر قريش -وهو مَن أعاد ملك بني أمية إلى الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية عام 132هـ- اندلعت ثورة بمدينة سرقسطة عام (157 هـ / 774 م) بزعامة سليمان بن يقظان الكلبي المعروف بالأعرابي، وقد تحالف معه الحسين بن يحيى الأنصاري، وقد أرسل عبد الرحمن الداخل حملة عسكرية لمواجهة ثورة الأعرابي والأنصاري؛ إلا أن الجيش لم يوفق في وأد الثورة، وهُزم الجيش، وأُسر قائده ثعلبة بن عبيد الجذامي، وكان ذلك عام 158 هـ.
كان عبد الرحمن الداخل في ذلك التوقيت مشغولًا بمواجهة ثورة البربر في جنوب البلاد، وتشير بعض المرويات التاريخية إلى أن الأعرابي أراد أن يعزز من موقفه قبل فراغ عبد الرحمن من ثورة البربر، فأرسل إلى شارلمان ملك الفرنجة يعرض عليه التحالف ضد عبد الرحمن الداخل، وعُقد لقاء بينهما، واتفقا على التحالف ضد صقر قريش مقابل تسليم شارلمان المدن التي كانت تابعة للفرنجة، وقد رحَّب شارلمان بالاتفاق.
وهكذا الصراع على الكراسي والمناصب وحب الدنيا، يوقع صاحبه أحيانًا في دائرة الخيانة، فيخون بعض ضعاف الإيمان أمتهم وأوطانهم، بل ودينهم.
وفي عام (161 هـ / 777 م)، حشد شارلمان جيشًا عظيمًا، وتحرك نحو شمال الأندلس في اتجاه سرقسطة، وهو مكان اللقاء المتفق عليه بين الطرفين، وهنا ظهرت عدة مفاجآت: فعند وصول شارلمان إلى أسوار المدينة وجد أبوابها مغلقة، فقد رفض أهلها بقيادة الحسين بن يحيى الأنصاري الاستمرار في المؤامرة وتسليم مدينتهم لحاكم نصراني، فأغلقوا المدينة في وجهه، وهو ما دفعه إلى محاصرة المدينة تمهيدًا للاستيلاء عليها بالقوة بعد حصار، ثم وصلت معلومات إلى شارلمان بقيام ثورة السكسون ضده، مما اضطره إلى فك الحصار، ثم تحرك بجيشه شمالًا عائدًا إلى بلاده، مصطحبًا معه بعض الأسرى، وكان من بينهم الأعرابي نفسه، ثم قرَّر مسلمو سرقسطة مطاردة شارلمان بعد أن فك الحصار، وقد تم ذلك بالفعل، حيث تم الهجوم بقيادة ابني الأعرابي على مؤخرة الجيش وهو في طريق عودته إلى بلاده، وخُلّص الأسرى المسلمون، وهُزم شارلمان، وقُتل عدد من قادة جيشه في إثر ذلك الهجوم. (ينظر: دولة الإسلام في الأندلس، لمحمد عبد الله عنان).
وهكذا قدَّر الله -تعالى- فشل ذلك التحالف بين الأعرابي وشارلمان، ونجَّى الله المسلمين من تلك الخيانة.
عبد الرحمن بن مروان الجليقي:
في عصر محمد بن عبد الرحمن بن الحكم -محمد الأول (238 - 273 هـ/ 852 - 886 م)-، قامت ثورة بقيادة عبد الرحمن بن مروان الجليقي، وهو ينتسب إلى أسرة من المولَّدين، وقد وقعت عدة مواجهات بينه وبين جيش الدولة، واستعان عبد الرحمن خلال تلك الثورة بألفونسو الثالث، ملك ليون، وهاجم عددًا من المدن، واستطاع أن يستولي على عدة حصون، وعلى منطقة بطليوس، واستمر عبد الرحمن أعوامًا وهو يسيطر على منطقة بطليوس، واستمرت المواجهات بين الطرفين لعدة سنوات، علمًا بأن المنذر بن محمد بن عبد الرحمن قاد عدة حملات عسكرية لمكافحة الثائرين، وفي النهاية قُضي على الثورة.
ولكننا هنا نتوقف مع جريمة تحالف عبد الرحمن بن مروان الجليقي مع ألفونسو الثالث، في مواجهة الدولة المسلمة، ونتساءل: كيف طاوعته نفسه على أن يهاجم إخوانه المسلمين ويقتلهم، بمساعدة النصارى؟
كيف كان يسوغ لنفسه أن يقف في صفِّ أناس يرفعون راية الصليب، ضد مَن يرفعون راية: لا إله إلا لله محمد رسول الله؟
إنها الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، إنه الولاء لأعداء الأمة، إنه حب الدنيا والصراع على مناصبها الزائلة، ولا شك أن تلك الثورة قد أرهقت الدولة الأموية الحاكمة لبلاد الأندلس، وكبَّدتها كثيرًا من الخسائر.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.