الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 30 مارس 2025 - 1 شوال 1446هـ

من أنواع النعم في سورة النحل.. نعمة بعث النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- (1)

كتبه/ وائل عبد القادر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن نعم الله -تعالى- على عباده كثيرة موفورة لا يُحصيها حاصٍ، ولا يعدُّها عادٍ، وصدق الله -تعالى- حين قال: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 18).

فكم من معروف أسداه، وكم من خير أعطاه، وكم من مريض شفاه، وكم من مبتلٍ عافاه، وكم من ظالم قصمه، وكم من مظلوم نصره.

والمتأمل في سور القرآن يجد أن أكثر سور القرآن وأطولها ذكرًا لنعم الله تعالى هي سورة النحل، التي أطلق عليها أهل التفسير سورة (النِّعَم)، حيث عددت الكثير من نعم الله تعالى على عباده فيما يظهر من أفعال الله تعالى الدالة على قدرته وعظمته ومنته وفضله على العباد. فكم تقرأ: (الله خلق لكم - سخر لكم - جعل لكم - ...)، فتعددت نعمه وكثرت آلاؤه؛ سواء منها ما كان في الدِّين أو في الدنيا. فأسبغ على العباد من نعم الدين التي تُصلح بها القلوب وتُزكَّى بها الأنفس، وكذا أسبغ عليهم من نعم الدنيا التي تُصلح بها معايشهم وسبل حياتهم.

ولا يشك المسلم في أن ما أنعم الله تعالى به على العباد في الدين أعظم وأجل مما أنعم من نعم الدنيا، فحاجة الناس لصلاح قلوبهم وتزكية نفوسهم أحوج ما يكون؛ خاصة في أزمنة الفتن وغربة الدِّين؛ فله الحمد -جل وعلا- على ما أنعم في الدين والدنيا.

وقد افتتحت آيات هذه السورة المباركة الحديث عن النعم بنعمة الله تعالى في إرسال الرسل بالوحي الذي سماه (روحًا)؛ لأنه حياة القلوب وغذاء الأرواح على الحقيقة، فقال -تعالى-: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل: 2). وهي كقوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) (الشورى: 52).

فامتن -تعالى- على عباده بإنزال الكتب وإرسال الرسل لدعوة الناس إلى توحيد الله تعالى وإفراده وحده بكل أنواع العبادة، وذلك في كل أمة كما صرحت بعد ذلك آيات السورة ذاتها؛ فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36). وكان الواجب على العباد أن يقبلوا نعمة الله تعالى ويتهيأوا للانقياد والاستسلام لما جاءت به الرسل، لا سيما مع ما حبا الله تعالى به الرسل من مكارم الأخلاق ومحبة الخير للعباد.

ورغم ذلك انقسم الناس في قبول هذه النعمة إلى فريقين، فقال -تعالى-: (فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل: 36). وقد بينت الآيات هذا الاختلاف والتفرق، فأخبر تعالى عن قول الذين هداهم بقوله: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) (النحل: 30).

وأخبر عن الذين حقت عليهم الضلالة بقوله -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (النحل: 24)، فردوا نعمة الله تعالى وبدلوا هذه النعمة كفرًا، فصاروا وبالًا على غيرهم، فأحلوا قومهم دار البوار، فاستحقوا وعيد الله -تعالى- في السورة: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (النحل: 25).

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن استقرأ أحوال العالم تبيَّن له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله -صلى الله عليه وسلم-، وإن الذين ردوا رسالته هم من قال الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم: 28).

وقد ضربت الآيات في ختامها مثلًا لقريش في جحودها لرسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعدم قبولها لدعوته، بل وتنكرها له وهو الصادق فيهم، الأمين على كلِّ ما تحت يديه من نفائس أموالهم؛ فعادوه وآذوه وأخرجوه من مكة حتى نصره الله تعالى وأظهره عليهم، فبدلًا من أن يشكروا نعمة الله تعالى عليهم في إرسال رسول منهم، فعلوا ما فعلوا معه.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.