الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 12 ديسمبر 2024 - 11 جمادى الثانية 1446هـ

الألباني.. إمام الحديث في العصر الحديث (1)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كنتُ أَحْسَبُ أنَّني حينما أُمْسِكُ القلمَ لِأَكتُبَ في هذا المَقامِ أنَّه يَسْهُلُ عليَّ ما أبتغي مِن طَواعِيَةِ التَّعبيرِ، ومُواتَاةِ التَّصويرِ، وإرضاءِ الضَّميرِ، فإذا بي حينما جَدَّ الجَدُّ أُلْفِي قلميَ مَرضُوضًا، وأُحِسُّ لسانيَ مَعقُودًا، وأَجِدُ بيانيَ ضَنِينًا.

وأنَّى لي أنْ أستطيعَ شُكْرَانَ اللهِ -جَلَّ في عُلَاه- على جليلِ نعمائِه، وعظيمِ آلائِه، إذْ قَيَّضَ لي أنْ أَكُونَ مِمَّن يَقُومُونَ بِحَقِّ الوفاءِ لِلْعِلْمِ وذَوِيهِ، والاعترافِ لِأهلِ الفضلِ بالفضلِ.

ومِن هؤلاءِ العلّامةُ الجليلُ والبحَّاثةُ النِّحريرُ، ناصِرُ السُّنَّةِ وقامِعُ البدعةِ، إمامُ الحديثِ في العصرِ الحديثِ، الشَّيخُ محمَّد ناصر الدِّين الألبانيُّ -طيَّب اللهُ ثَرَاه، وتغمَّدَه برحمتِه-؛ فقد كان عالِمًا فَذًّا، داعِيًا مُعَلِّمًا، باحثًا نادرَ المِثَالِ، مُنْكَبًّا طِيلَةَ حياتِه على البحثِ، والتَّأليفِ، والتَّحقيقِ، والنَّشْرِ، والدَّعوةِ إلى اللهِ -جَلَّ في عُلَاه- بِعِلْمٍ وحِلْمٍ.

ومِن الواقعِ المُرِّ الذي نَعِيشُه أن تَخرُجَ علينا نُفُوسٌ مَرِيضَةٌ، وعُقُولٌ مَؤُوفَةٌ، وأَدْمِغَةٌ صَدِئَةٌ، فَاسِدَةٌ مُفْسِدَةٌ، تَعمَلُ على هدمِ الصَّالحِينَ، والسُّخْريةِ منهم، والاستهزاءِ بهم!

وفي كُلِّ مَرَّةٍ كنتُ أَسألُ نَفْسِي: ماذا يريد هؤلاءِ مِن وَرَاءِ كُلِّ هذه الطُّعُونِ والانتقاصِ مِن أهلِ العِلْمِ والصَّلاحِ؟!

حقيقةً لَمْ أَجِدْ لِسؤالِي جَوابًا! غَيْرَ أنِّي جَزَمْتُ بأنَّها مواقفُ شَخْصِيَّةٌ وأهواءٌ نَفْسِيَّةٌ! لا أَمَاناتٌ عِلْمِيَّةٌ أو عَدَالاتٌ شَرْعِيَّةُ!

ولَيْتَ الذي يَدفعُهم إلى هذا الجَدَلِ (العَقِيمِ!) نُصْرَةُ الحَقِّ! وإنَّما الدَّافِعُ لهم -واللهُ أَعْلَمُ- حُبُّ المُخالَفةِ! وقَصْدُ المُغالَبةِ! وبَيانُ الفَرَاهَةِ!

قال ابنُ عَقِيلٍ الحنبليُّ (ت 513) -رحمه الله- في "الواضح في أصول الفقه" (1/ 517): (وكُلُّ جَدَلٍ لَم يكن الغَرضُ فيه نُصْرةَ الحَقِّ، فإنَّه وبالٌ على صاحبِه، والمَضَرَّةُ فيه أكثرُ مِن المَنْفَعَةِ؛ لِأنَّ المُخالَفةُ تُوحِشُ، ولولا ما يَلزمُ مِن إنكارِ الباطلِ، واستنقاذِ الهالِكِ بالاجتهادِ في ردِّه عمَّا يَعتقِدُهُ مِن الضَّلَالَةِ، ويَنْطَوِي عليه مِن الجَهَالَةِ، لَمَا حَسُنَتِ المُجَادَلَةُ لِمَا فيها مِن الإيحاشِ في غالِبِ الأحوالِ، ولكن فيها أعظمُ المَنفعةِ وأكثرُ الفَائدةِ إذا قَصَدَ بها نُصْرَةَ الحَقِّ، وإنكارَ ما زَجَرَ عنه الشَّرْعُ والعَقْلُ بِالحُجَّةِ الواضحةِ والطريقةِ الحَسَنَةِ) (انتهى).

أمَّا الرَّدُّ بمُجرَّدِ الشَّتْمِ والتَّهْوِيلِ والسُّخْريةِ والاستهزاءِ فلا يَعْجِزُ عنه أَحَدٌ؛ فقد قال ابنُ تيميَّةَ (ت 728) -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (4/ 186): (فإنَّ الرَّدَّ بِمُجَرَّدِ الشَّتْمِ والتَّهْوِيلِ فلا يَعْجِزُ عنه أَحَدٌ؛ والإنسانُ لو أنَّه يُناظِرُ المُشْركِينَ وأهلَ الكِتَابِ؛ لكان عليه أنْ يَذْكُرَ مِن الحُجَّةِ ما يُبَيِّنُ به الحَقَّ الذي معه، والبَاطِلَ الذي معهم) (انتهى).

وأُوصِي نَفْسِيَ وإيَّاهُم بوصيَّةِ السَّخاويِّ (ت 902) -رحمه الله- وهو يَتكَلَّمُ عن خُطُورَةِ الجَرْحِ والتَّعْدِيلِ؛ إذْ قال في "فتح المُغِيث بشرح ألفيَّةِ الحديث لِلعراقيّ (ت 806)" (4/ 350): (وَاحْذَرْ أَيُّهَا المُتَصَدِّي لذلك، المُقْتَفِي فيه أَثَرَ مَن تَقَدَّمَ، مِن غَرَضٍ أو هَوًى يَحْمِلُكَ كُلٌّ منهما على التَّحَامُلِ والانحرافِ وتَرْكِ الإنصافِ، أو الإطراءِ والافتراءِ؛ فذلك شَرُّ الْأُمُورِ التي تَدْخُلُ على القائِمِ بذلك الآفةُ منها. والمُتَقدِّمُونَ سَالِمُونَ منه -غالبًا-، مُنَزَّهُونَ عنه لِوُفُورِ دِيانَتِهم، بِخلافِ المُتَأخِّرينَ؛ فإنَّه رُبَّمَا يَقَعُ ذلك في تَوَاريخِهم، وهو مُجَانِبٌ لِأهلِ الدِّينِ وطَرَائِقِهم.

فَالْجَرْحُ والتَّعْدِيلُ خَطَرٌ؛ لِأنَّكَ إنْ عَدَّلْتَ بِغَيْرِ تَثَبُّتٍ كُنْتَ كالْمُثْبِتِ حُكْمًا ليس بِثَابِتٍ؛ فيُخْشَى عليك أنْ تَدْخُلَ في زُمْرَةِ مَن روى حديثًا وهو يَظُنُّ أنَّه كَذِبٌ.

وإنْ جَرَّحْتَ بِغَيْرِ تَحَرُّزٍ أَقْدَمْتَ على الطَّعْنِ في مُسْلِمٍ بَرِيءٍ مِن ذلك ووَسَمْتَهُ بِمِيسَمِ سُوءٍ يَبْقَى عليه عَارُهُ أَبَدًا، وهو في الجَرْحِ بِخُصُوصِهِ، أَيُّ خَطَرٍ -بِفَتْحِ المُعْجَمَةِ ثُمَّ المُهْمَلَةِ مِن قَوْلِهِمْ: خَاطَرَ بِنَفْسِهِ؛ أَيْ: أَشْرَفَ على هَلَاكِهَا-؛ فَإِنَّ فيه مع حَقِّ اللهِ ورَسُولِهِ حَقَّ آدَمِيٍّ، ورُبَّمَا يَنَالُهُ إذا كان بِالْهَوَى وَمُجَانَبَةِ الاسْتِوَاءِ الضَّرَرُ في الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، والمَقْتُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالمُنَافَرَةُ...) (انتهى).

واللهُ الهَادِي إلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.