الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (18)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبعد أن عاد الأستاذُ "محمود شاكر" مِن هجرتِه الحِجازيّةِ غَاصَ في يَمِّ سنواتِ العُزلةِ التي ارتضاها لِنَفْسِه، فظَلَّ يَشْدُو في واحتِه الوَارِفَةِ الظَّلِيلةِ، فلا يُسْمِعُ إلا نَفْسَهُ وبعضَ المُحبِّينَ والمُقرَّبِينَ، وأساتذتَه وبعضَ الأدباءِ والمُفكِّرِينَ؛ مثل: أحمد تيمور باشا، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد زكي باشا، والخضر حسين.
ولَم يَنقطِعْ عن الواقعِ الثَّقافيِّ انقطاعًا كاملًا، بل كان على دِرَايَةٍ بما يَقَعُ مِن أحداثٍ، ويُقامُ مِن مُناسَباتٍ، وشَرَعَ يَرسِمُ لِنَفْسِهِ طريقًا في قراءةِ الشِّعْرِ العَرَبِيِّ وغَيْرِه، غَيْرَ الطَّرِيقِ الذي تَسِيرُ فيه المدارسُ والجامعاتُ المِصريّة.
قال الأستاذُ محمود شاكر -رحمه الله-: "اعْلَمْ أنِّي قضيتُ عشرَ سنواتٍ مِن شبابي، في حَيْرَةٍ زائغةٍ، وضلالةٍ مُضْنِيَةٍ، وشُكُوكٍ مُمَزِّقَةٍ، حتى خِفْتُ على نَفْسِيَ الهلاكَ، وأن أخسرَ دُنْيَايَ وآخِرَتي، مُحْتَقِبًا إثمًا يَقذِفُ بي في عذابِ اللهِ بما جَنَيْتُ؛ فكان كُلَّ هَمِّي يومئذٍ أن أَلتمِسَ بَصِيصًا أهتدي به إلى مَخرجٍ يُنجِيني مٍن قَبْرِ هذه الظُّلُماتِ المُطْبِقَةِ عليَّ مِن كُلِّ جانبٍ.
فمنذُ كنتُ في السَّابعةَ عشرةَ مِن عُمري سنة 1926، إلى أن بَلَغتُ السَّابعةَ والعشرينَ سنة 1936، كنتُ مُنغَمِسًا في غِمَارِ حياةٍ أدبيَّةٍ بدأتُ أُحِسُّ إحساسًا مُبْهَمًا مُتَصَاعِدًا أنَّها حياةٌ فاسدةٌ مِن كُلِّ وَجْهٍ؛ فلَم أَجِدْ لِنَفْسِي خَلاصًا؛ إلا أن أَرْفُضُ مُتَخَوِّفًا حَذِرًا شَيئًا فَشَيئًا، أكثرَ المَناهجِ الأدبيَّةِ والسِّياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والدِّينيَّةِ التي كانت يومئذٍ تَطْغَى كالسَّيلِ الجَارِفِ، يَهدِمُ السُّدُودَ، ويُقَوِّضُ كُلَّ قائمٍ في نَفْسِي وفي فِطْرَتِي.
ويومئذٍ طَويتُ كُلَّ نَفْسِي على عزيمةٍ حَذَّاءَ ماضيةٍ: أن أَبدَأَ، وحيدًا مُنفَرِدًا، رحلةً طويلةً جدًّا، وبعيدةً جدًّا، وشَاقَّةً جدًّا، ومُثِيرَةً جدًّا.
بدأتُ بإعادةِ قراءةِ الشِّعْرِ العَرَبِيِّ كُلِّه، أو ما وَقَعَ تحت يدي مِنْهُ يومئذٍ على الْأَصَحِّ، قراءةً مُتَأَنِّيَةً طويلةَ الْأَنَاةِ عند كُلِّ لفظٍ ومعنًى، كأنِّي أُقَلِّبُهُمَا بعقلي، وأَرُوزُهُمَا (أي: أَزِنُهُمَا مُخْتَبِرًا) بقلبي، وأَجُسُّهُمَا جَسًّا ببصري وببصيرتي، وكأنِّي أريد أن أَتَحَسَّسَهُمَا بيدي، وأَسْتَنْشِيَ (أَي: أَشُمَّ) ما يَفُوحُ منهما بأنفي، وأَسَّمَّعَ دبيبَ الحياةِ الخَفِيَّ فيهما بِأُذُنَيَّ = ثُمَّ أَتَذَوَّقُهُمَا تَذَوُّقًا بعقلي وقلبي وبصيرتي وأناملي وأنفي وسمعي ولساني، كأنِّي أطلبُ فيهما خَبِيئًا قد أخفاه الشَّاعِرُ المَاكِرُ بفَنِّه وبراعتِه، وأَتَدَسَّسُ إلى دَفِينٍ قد سقط مِن الشَّاعِرِ عَفْوًا أو سَهْوًا تحت نَظْمِ كلماتِه ومَعانِيه، دون قَصْدٍ منه أو تَعَمُّدٍ أو إرادةٍ.
لا تَقُلْ لِنَفْسِكَ: "هذا مَجازٌ لَفْظِيٌّ"! كَلَّا، بل هو أَشْبَهُ بحقيقةٍ أيقنتُ بها، لأنِّي سخَّرتُ كُلَّ ما فطَرني اللهُ عليه، وأيضًا كُلَّ معرفةٍ تُنَالَ بالسَّمْعِ أو البصرِ أو الإحساسِ أو القراءةِ، وكُلَّ ما يَدخُلُ في طَوْقِي مِن مُراجَعةٍ واستقصاءٍ بلا تَهاوُنٍ أو إغفالٍ = سخَّرتُ كُلَّ سَلِيقَةٍ فُطِرْتُ عليها، وكُلَّ سَجِيَّةٍ لانَتْ لي بالإدراكِ لِكَيْ أَنْفُذَ إلى حقيقةِ "البَيَانِ" الذي كرَّم اللهُ به آدمَ -عليه السَّلامُ- وأبناءَه مِن بَعْدِه؛ وهذا أمرٌ شاقٌّ جدًّا، كان، ومُثِيرٌ جدًّا، كان، ولكن المَطْلَبُ البعيدُ هَوَّنَ عندي كُلَّ مَشَقَّةٍ وضَنًى" (رسالة في الطَّريق إلى ثقافتنا).
ونُكمِلُ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-، وباللهِ التَّوفيق.