الصالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (19)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإنّ النَّهْجَ الذي سلَكَه محمود شاكر في قراءةِ الشِّعْرِ وغَيْرِه كان قائمًا على مسألةِ "التَّذَوُّقِ"، وقد صرَّح بهذا كثيرًا في مقالاتِه، وكُتُبِه: كـ"المُتنبِّي"، و"رسالة في الطَّريق إلى ثقافتِنا"، و"أباطيل وأسمار"، و"نمط صعب"، ومُقدِّماتِ تحقيقاتِه: كـ"طبقات ابن سلام"، و"كتابَي عبد القاهر"؛ فقد قال في مُقدِّمتِه الجديدةِ على كتابِه "المُتنبِّي" (ص: 11، 12): "وبهذا التَّذَوُّقِ المُتَتابعِ الذي أَلِفْتُه، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورائحةٌ، وصار مَذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه وشذاهُ ورائحتُه بيِّنًا عندي، بل صار تَمَيُّزُ بعضٍ مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه.
بمثل هذا الحديثِ كنتُ أفاوضُ الشُّيوخَ الكبارَ ممّن عَرَفْتُهم ولَقِيتُهم، وكان هذا الحديثُ هِجِّيرَاي -أي: دأبي وعادتي مِن فَرْطِ النَّشْوة-، فكان يُعرِضُ عنِّي مَن أعرض، ويُرَبِّتُ على خُيلاءِ شبابي مَن رَبَّتَ بيدٍ لطيفةٍ حانيةٍ) (انتهى).
وقد عرَّف منهجَه في مُقدِّمةِ كتابِه "رسالة في الطَّريق إلى ثقافتنا" (ص: 15، 16)؛ حيث قال: "فمَنْهجِي في "تَذوُّقِ الكلامِ"، مَعنِيٌّ كُلَّ العنايةِ باستنباطِ هذه الدَّفائنِ، وباستدراجِها مِن مَكامِنِها، ومعالجةِ نَظْمِ الكلامِ ولَفْظِهِ معالجةً تُتِيحُ لي أن أَنْفُضَ الظَّلامَ عن مَصُونِها، وأُمِيطَ اللِّثَامَ عن أَخْفَى أسرارها وأَغْمَضِ سَرائِرِها.
وهذا أمرٌ لا يُستطَاعُ ولا يَكُونُ له ثمرةٌ إلا بالأناةِ والصَّبْرِ، وإلا باستقصاءِ الجُهْدِ في التَّثَبُّتِ مِن معاني ألفاظِ اللُّغةِ، ومِن مَجَارِي دلالاتِها الظَّاهرةِ والخَفِيَّةِ، بلا استكراهٍ ولا عَجَلَةٍ، وبلا ذَهابٍ مع الخَاطرِ الأوَّلِ، وبلا تَوَهُّمٍ مُسْتَبِدٍّ تُخْضِعُ له نَظْمَ الكلامِ ولَفْظَه" (انتهى).
وقال في مقالِه "المُتَنَبِّي لَيتَنِي ما عَرَفتُه 2"، الذي نَشرتْه مَجَلَّةُ "الثَّقافة" (السنة السادسة / العدد 61 / أكتوبر 1978/ ص 4-18): "والمسألةُ الآن في تحريرِ القَوْلِ في اللَّفظِ المُشترَكِ بيني وبينك، حيث أَقُولُ أو تَقُولُ: "تَذوَّقَ الشِّعْر" أو "تَذوَّقتُ هذا الشِّعْر".
وأَبدأُ هنا بلفظِ "الشِّعْرِ" الذي يَتعلَّقُ به "التَّذَوُّقُ"، مُتجنِّبًا استعمالَ هذه التُّحَفِ التي ألطفنا بها زماننا، مِن ألفاظٍ مُشكِلَةٍ غامضة غير مُستقِرَّةٍ، مثل "الشَّكلِ" و"المَضمُونِ" وأخواتِهما وبناتِ عمّاتِها وبناتِ خالاتِها؛ ولكي يكونَ حديثي عن "الشِّعْر" واضحًا في نَفْسِك، فأسألُك أن تكونَ على ذِكْرٍ دائمٍ غير مُتقطِّعٍ مِن أنّ "الشِّعْرَ" كلامٌ، وأنّ "الكلامَ" أصلًا هو اللَّفْظُ المَسْمُوعُ لا المَكْتُوبُ، فإنّ أكثرَ حديثي هنا يَتضَمَّنُ ما يُوجِبُ أن يكونَ هذا المعنى حاضرًا في الذِّهْنِ، وإن لَم أَكتُبْه. وأنت بلا شكٍّ تُدرِكُ لماذا سارعتُ فسألتُك أن تفعلَ ذلك، وإن كان مِثْلُ هذا السُّؤالِ غيرَ لائقٍ أحيانًا، ولكن لولا ذلك لَمَا سألتُك" (انتهى).
ونُكْمِلُ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
واللهُ المُستَعانُ.