كتبه/ غريب أبو الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- ما إن أعلن الرجل الذي لا يشعر بالحرج من تناقضاته وتقلباته "ترامب" عن وقف إطلاق النار حتى بدأ الصهاينة في إعلان النصر، والمفارقة: أن إيران أيضًا تعلن النصر، ومن نافلة القول: إن ترامب يعتبر نفسه المنتصر الأول والأوحد فيما حدث.
- سيرى الصهاينة أنهم في إطار تغيير وجه الشرق الأوسط، وبعد أن جعلوا غزة أثرًا بعد عين، وبعد أن انزوى حزب الله على وقع اختراقاتهم وضرباتهم ولم يجرؤ على المشاركة في الحرب الإيرانية مع الصهاينة، وبعد أن رحل نظام الأسد وتدمير كل مقدرات الجيش السوري السابق؛ ها هم قد قتلوا علماء إيران النوويين، وقتلوا هيئة الأركان، وقتلوا قائد الحرس الثوري، ثم دمروا المنشآت النووية وعددًا كبيرًا من منصات إطلاق الصواريخ الباليستية، ويرون أنهم أحق من يحتفل بالنصر ويعلِّق زيناته.
- وعلى الجانب الآخر: سيحتفل النظام الإيراني بالنصر أيضًا، فسيرى أن أمريكا وإسرائيل لم يستطيعا أن تقضيا عليه، بل يرى أن استطاعته استبدال القيادات التي تم قتلها بسرعة دليل على قوة النظام! ثم إنه أذاق الداخل الصهيوني رعبًا لم تشعر به منذ عام 48 حيث تلقى الداخل الإسرائيلي وابلًا من الصواريخ والدمار غير مسبوق، ثم إن إيران قصفت قاعدة العديد الأمريكية دون أن ترد أمريكا عليها، والضربة الأخيرة في الحرب كانت ضربة إيرانية أيضًا حتى هذه اللحظات.
- وسيحتفل ترامب بأنه الرئيس الأمريكي الذي استطاع قصف المنشآت النووية الإيرانية، في حين أن الرؤساء الأغبياء السابقين -على حدِّ تعبيره المتكرر- لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك؛ فهو قاتل رجل إيران الأول "سليماني"، وهو رامبو الذي دَمَّر المنشآت النووية الإيرانية؛ حيث يحب ترامب كثيرًا أن يسمع كلمة "أنت الوحيد الذي فعلتَ كذا...".
- حدث الاتفاق؛ لأنه لم يعد في صالح أحد أن تستمر هذه الحرب، فلا أمريكا تستطيع أن تحسمها بريًّا وَفْق المعطيات الحالية، ولا الصهاينة يستطيعون كذلك التدخل البري. ولم يعودوا يتحملون هذا الدمار على جبهتهم الداخلية، وإيران تريد أن تلعق جراحها وترميم ما تهدم من بنية نظامها، ولا القوى العالمية تستطيع تحمل تكلفة إغلاق مضيق هرمز، وتحمل الزيادات المتوقعة لبراميل النفط المتدفقة من الخليج أو إيران.
ولكنَّ هناك وجهًا آخر للحقيقة:
- فعند بني صهيون اهتز وعدهم للُقطاء العالم من اليهود بأن يأتوا لأرضنا المحتلة في فلسطين، وسيجدون الأمن والعمل والحياة السعيدة؛ فقد تعرض الوعد لاهتزاز كبير؛ حدث ذلك الاهتزاز في السابع من أكتوبر وحاول الصهاينة إعادة معادلة الأمن بمحو غزة من على الخارطة، ولكن جاء الخطر هذه المرة من على بعد 1500 كيلومتر عبر السماء.
ولأن الصهاينة مغتصبون ومحتلون؛ فقد سارعوا بالهرب والعودة لأوطانهم الأصلية، وقد كشفت أيضًا الحرب عن المشكلة الجغرافية للكيان المحتل، فصغر المساحة تجعل هناك غيابًا للعمق الإستراتيجي للكيان، فأقل صاروخ من خارجها كفيل بأن يدخل الشعب الصهيوني كله للملاجئ، وأن تتوقف عجلة الاقتصاد وربما نبضات القلوب.
- وانتهاء الحرب يعني أن يشتعل الداخل الإسرائيلي مرة أخرى، فقد جمعت الحرب الأخيرة الجبهة الداخلية وأسكتت الأصوات المعارضة لنتنياهو، وسوف تتشتت الجبهة الداخلية بمجرد رحيلها؛ بالإضافة للتشكيك في النصر المطلق الذي يردده نتنياهو، فهناك أصوات ترى أن البرنامج النووي الإيراني سوف يتم استئنافه في وقت ما، وأن الصواريخ الباليستية سوف يستمر إنتاجها وربما بقدرات أكبر، وسيجد نتنياهو مَن يسحب منه نشوة النصر سريعًا من الداخل الصهيوني قبل خارجه!
- والداخل الإيراني ليس ببعيد عن الغليان أيضًا، فقد تكرَّرت المظاهرات الشعبية الساخطة على الوضع الداخلي في إيران، فهناك سخط على الوضع الاقتصادي وسخط على نظام الحكم واضطهاد الأقليات، فالشعب الإيراني الذي يحيا في بلد يقدر الاحتياطي النفطي والغازي بها من أعلى دول العالم يحيى في حالة يرثى لها، وهو يرى الشعوب الخليجية تعيش متنعمة في خيراتها، فقد يكون ما حدث في مجريات الحرب الأخيرة والاختراق الصهيوني الخطير والكبير للنظام الإيراني دافعًا للعديد من الأقليات للخروج عن طوع النظام الإيراني، وربما وجد من الدعم الغربي ما يساعده على ذلك.
ولكن إذا كان الجميع يعلق زينات النصر فمن تلقى الهزائم؟
- الذي تلقى الهزائم تلك الجماعات التي توالي النظام الإيراني، والتي لا تمل من المدح السخيف له في كلِّ مناسبة؛ فقد بدأ وقف إطلاق النار ولم نسمع أي شيء بخصوص غزة المنسي أهلها، فلم تتوقف آلة القتل الصهيونية يومًا، وها هو شعبنا المظلوم في غزة يقتل كل يوم، ولكن هذه المرة وهو يقف في طابور تلقي المساعدات، فلكي تأكل هناك لا بد أن تقف على حافة الموت، ولكي تحيا بعض الوقت لا بد أن تغامر بكل حياتك! وإنا لله وإنا إليه راجعون، فها هي إيران تتفق دون أن يأتي أن شيء بخصوص غزة ليعلم الجميع أن فلسطين لا تتجاوز كونها فصلًا من الدعاية في كتاب المصالح الإيرانية ، وأن الفصائل التي تصفق لإيران توشك أن تكون جزءًا من هذه الدعاية.
- الذي تلقى الهزائم هي تلك الدول التي سارعت للتطبيع مع الكيان الصهيوني وهي تظن أنها بهذا التطبيع ترسم لنفسها مستقبلًا مشرقًا، وأنها حين تكون مروجة وداعية للدين الإبراهيمي الجديد أو للاتفاقات الإبراهيمية سوف تكون في مأمن من الأطماع الصهيونية في المنطقة، وهذه الثقة كثقة الحملان في وعود الذئاب بأنها سوف تغير نظامها الغذائي، وسوف تتغذى على الأعشاب في المستقبل!
- الذي تلقَّى الهزائم هي تلك الدول التي تستقبل القواعد العسكرية في بلادها طلبا للحماية أو الأمن، فها هي أمريكا مع أول تهديد لهذه القواعد سارعت لإفراغها من الطائرات والجنود، وتركت تلك الدول تواجه هذه الأخطار وحيدة، فلا يحمي البلاد إلا سواعد أبنائها وسلاحها المصنوع على أرضها، وقبل كل ذلك طلب العون من الله بالاستقامة على أمره.
- الذي تلقى الهزائم هي تلك الجماعات وتلك الأفكار التي دأبت على محاولة جر بلادنا المستقرة نحو الفوضى، والتي تكفر حكوماتها ومجتمعها وتعمل بكل طاقتها لإسقاط الأنظمة في بلادنا المنهكة حتى تكون لقمة سائغة أمام الأطماع الصهيونية، والتي تريد أن تبتلع المنطقة كلها وتغير وجه الشرق الأوسط -كما تزعم!-.
والعجيب: أن تلك الجماعات ولجانها الإلكترونية بالغت في مدح إيران واعتبارها تجاهد في سبيل الله، ولكن حين قصفت إيران القواعد الأمريكية في بعض الدول التي تؤويهم صمتوا صمت القبور، واكتفوا بالدعاء لحفظ أمن تلك الدول!
- والعجيب في هذه الجماعات هو مدح إيران وصمود إيران، وصواريخ ايران، والتغاضي عن تلك المذابح التي ارتكبتها إيران في بلادنا السنية، والتغاضي عن انحرافاتهم العقدية في الأئمة والتي تقف بهم على حافة الكفر وربما تجاوزته في بعض أعيانهم، ثم إذا جاء ذكر الأنظمة في الدول العربية فلا يستنكفون عن تكفير الأنظمة والمجتمعات بمنتهى السهولة، ولو تركت دولنا المستقرة لعقولهم وأهوائهم لكان مصيرها مصير تلك الدول التي تجوب فيها الطائرات الصهيونية وتقصف كما يحلو لها، والتي عبرت من فوقها الطائرات الصهيونية خلال نزهتها لقصف إيران.
- إن آثار الحرب الإيرانية الإسرائيلية ستفرض سباقًا آخر للتسلح في المنطقة، وستجعل الجميع يحتاط من الاختراق الاستخباراتي والتقني والسيبراني.
وبروز هذا التطور الخطير في الصواريخ سوف يجعل الجميع يعيد النظر في منظومة التسليح ووسائل الردع، وهروب القواعد العسكرية عند الخطر لا بد أن يجعل من يعتمد عليها يعيد النظر في فوائد وجودها، وكم أتمنى في ظل سياسة أمريكا المتبجحة والصهاينة المتعالية أن تدفع دولنا العربية والإسلامية للاجتماع ومد جسور الثقة وإيجاد سبل للتعاون الاقتصادي والعسكري الجاد الذي يجعل الجميع يقيم حسابا لهم ولتجمعهم.
- إن صعود الخلفية الدينية لتلك الحروب وبروز مفرداتها على ألسنة الساسة في أمريكا وفي الكيان، يذكِّر الجميع أننا كأمة إسلامية وأصحاب رسالة خاتم الأنبياء محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، المرسل لنا رسالة من رب العالمين، مأمورون باتباع القواعد المستقرة في الكتاب والسُّنة والتي هي خارطة طريق لسعادة الدنيا والآخرة، ونحن لا نتكلم عن شيء مستحدث، بل نتكلم عن طريق سار فيه الآباء والأجداد فحققوا سعادة الدنيا والآخرة؛ قال -تعالى-: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 3).