الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 11 سبتمبر 2024 - 8 ربيع الأول 1446هـ

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (12)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

وقفاتٌ مع هجرةِ الأستاذِ محمود شاكر مِن مِصرَ، وعودتِه إليها:

الوقفةُ الأُولَى: عِنَايةُ الأستاذِ بتلميذِه، وحِرْصُهُ عليه؛ وقد ظهر هذا في محاولاتِ أساتذتِه المُتكرِّرةِ في إقناعِه بالرُّجُوعِ عن قَرارِه بتركِ الجامعةِ، وقد فصَّلْنا في هذا بما يُغنِي عن الإعادة.

الوقفةُ الثَّانيةُ: تَفَقُّدُ الصَّديقِ صديقَه إذا غاب، وتَعاهُدُه، والسُّؤالُ عن أحوالِه؛ وأَفْضَلُ مثالٍ لهذا: ما فَعلَه معه صديقُه محمود محمد الخضيري بعد ما انقطع عن الجامعةِ؛ فقد قال محمود شاكر -كما في "جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر" (2/ 1108) لِتلميذِه الدُّكتور عادل سليمان جمال-: (وذاتَ يومٍ في الصَّباحِ الباكرِ دخل عليَّ زميلي وصديقي الأستاذُ محمد الخضيري، يَستطلِعُ أمرَ غَيْبَتِي عن الجامعةِ، وكان قد سأل عنِّي مرّاتٍ بالهاتفِ ولَم يَجِدْنِي. فلمّا جلس أفضيتُ إليه بالأمرِ كُلِّه، ففَزِعَ قائمًا، وكاد يبكي، فلمّا أخبرتُه بجميعِ ما في نَفْسِي أَطْرَقَ وسكن، وبقي قليلًا ثم انصرف) (انتهى).

ومِن جميلِ ما يُذكَر: أنّ الأحاديثَ التي دارت بين محمود شاكر وزميلِه محمود الخضيري كان لها أثرٌ كبيرٌ، حتى على الخضيري نَفْسِه؛ فيقول الأستاذُ محمود شاكر في مُقدِّمتِه الجديدةِ (1397 / 1977) على كتابِه "المتنبي" (ص 14): (كان مِن أَثَرِ هذه الأحاديثِ بيننا: أنْ بدأ الخضيري مِن يومئذٍ في ترجمةِ كتابِ ديكارت "مقال عن المنهج"، ونَشَرَهُ بعد ذلك سنة 1930 في المطبعة السَّلَفيَّة).

وكان مِن أَثَرِهَا أيضًا: أنْ لَخَّصَ الخضيري مقالةَ مرجليوث، ونَشَرَهَا في مَجَلَّةِ "الزَّهراء"، التي يُصْدِرُهَا صاحبُ المطبعةِ السَّلَفيَّةِ، في عددِ ذي الحِجَّةِ سنة 1346 - إبريل 1928) (انتهى).

الوقفةُ الثَّالثةُ: وفاءُ التِّلميذِ لِأساتذتِه، ولِكُلِّ مَن أَسْدَى إليه معروفًا، وحِفْظُ الجَمِيلِ لهم، وذِكْرُهُم بالخَيرِ دائمًا؛ وكانت هذه أخلاقَ محمود شاكر، فقد رأينا قَبْلَ ذلك ما قاله في حَقِّ أستاذِه د. طه حسين، على الرَّغْمِ مِن الاختلافِ معه؛ فكان يقول: (فالدُّكتور طه أستاذي، وله عليَّ حَقُّ الهَيْبَةِ، هذا أدبُنا، ولِلدُّكتور طه عليَّ يدٌ لا أنساها... فدخلتُ يومئذٍ بفضلِه كُلِّيَّةَ الآدابِ، قسم اللغة العربية، وحِفْظُ الجميلِ أدبٌ لا ينبغي التَّهاونُ فيه.

وأيضًا فقد كنتُ في السابعة عشرة من عمري، والدُّكتور طه في السابعة والثلاثين، فهو بمنزلة أخي الكبير، وتَوْقِيرُ السِّنِّ أدبٌ ارْتَضَعْنَاهُ مع لِبَانِ الطُّفُولَة).

ومِن مظاهرِ الوفاءِ في أثناءِ هجرةِ الحِجازِ: ذِكْرُهُ الشَّيخَ "فوزان السَّابق" بالخَيرِ، وتَرَحُّمُهُ عليه، وهو الذي أعانَه على استخراجِ جَوازِ السَّفرِ الذي مَكَّنَه مِن الهجرةِ إلى الحِجازِ؛ فيقول الأستاذُ محمود شاكر -كما في "جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر" (2/ 1107، 1108): (انقطعتُ عن الذَّهابِ إلى الجامعةِ فجأةً، لَم أَرَ أحدًا مِن زملائي البتَّة، وعزمتُ على أن أُسَافِرَ إلى مَكَّةَ والمدينةِ طَلَبًا لِلْعُزلَةِ، ولَم أُخْبِرْ أحدًا قَطُّ بعَزِيمَتِي إلا رَجُلًا واحدًا، كان قد أطال المُقامَ في مِصرَ، وصار بَعْدُ سَفِيرًا لِلسُّعُوديَّةِ، وهو الشَّيخُ "فوزان السَّابق" -رحمه الله-، كان صديقًا لأبِي وإخوتِي، وكان يَعْرِفُنِي أَوْثَقَ معرفةٍ.

استمع الرَّجُلُ إليَّ، وكان وَدِيعًا طَيِّبَ النَّفْسِ، فبَعْدَ لَأْيٍ قَبِلَ أنْ يُعِينَنِي، وأخذتُ عليه العهدَ أن لا يُخْبِرَ أحدًا مِن أهلي بما عزمتُ عليه.

ورُحْتُ أسعى سَعْيًا حَثِيثًا حتى استخرجتُ شهادةَ الإعفاءِ مِن الخدمةِ العسكريَّةِ، بَعْدَ دفعِ رُسُومِ "البَدَلِيَّة" -كما كانوا يُسَمُّونَها-، وأعانني الشَّيخُ فوزان حتى استخرجتُ جَوازَ سَفَرٍ بعد جَهْدٍ جَهِيد) (انتهى).

ونُكمِلُ هذه المَظاهرَ، وهذه الوقفاتِ، في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.

وباللهِ التَّوفِيق.

WordDefinitionRoot
فَوْزانِvictory فوز
فَوْزانFawzanفوز
فَوِزان commensurate with;in analogy toوزن