الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 04 سبتمبر 2024 - 1 ربيع الأول 1446هـ

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (11)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلا شكَّ أنَّنا أمامَ رَجُلٍ أعاد إلينا ثقةً في ماضِينا الغابِر، وثقةً في حاضرِنا الرَّاهِن؛ فمنذ شبابِه الباكرِ وحمايةُ تُراثِ الأُمَّةِ وثقافتِها هو هدفُه الأعلى، واتِّجاهُه الأسمى. وقد رأينا في المقالِ السَّابقِ كيف كان يبحثُ عن نقاءِ عقيدتِه، وتحقيقِ عُرُوبتِه! ولا عَجَبَ في هذا مِن رَجُلٍ تَرَبَّى في بيتِ عِلْمٍ ودِيانةٍ، وإيمانٍ واستقامةٍ؛ فتَحَوَّلَتْ عقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ دمًا في عُرُوقِه، وعَصَبًا في رأسِه؛ فقد قال تلميذُه الدُّكتور محمود الطَّناحي (1935 - 1999م) في "مقالاته" (2/ 523): "ولَعَلَّ الذي زهَّد شيخَنا في الجاحِظِ هو مُيولُه الاعتِزاليَّةُ، والشَّيخُ كما هو مَعروفٌ مِن أهلِ السُّنَّةِ والأثَرِ") (انتهى).

وقال الشَّيخُ محمود شاكر نَفْسُه في حقِّ محمَّدِ بنِ عَبدِ الوهَّابِ -كما في "جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر" (2/ 1202 - 1203) لتلميذه الدُّكتور عادل سليمان جمال-: "وفَتَح عينَيه على ما يَعُمُّ نَجْدًا والبِلادَ التي زارها مِن البِدَعِ التي حدَثَت، وما غَمَر العامَّةَ والخاصَّةَ مِنَ الأعمالِ والعقائِدِ الحادِثةِ، والتي تُخالِفُ ما كان عليه سَلَفُ الأُمَّةِ مِن صَفاءِ عَقيدةِ التَّوحيدِ، وهي رُكْنُ الإِسلامِ الأكبَرُ، فلمَّا عاد إلى نجدٍ لَم يَقنَعْ بتأليفِ الكُتُبِ، ورأى أنَّ خَيْرَ الطُّرُقِ هو أن يَتَّجِهَ إلى عامَّةِ النَّاسِ في نَجدٍ؛ لِيرُدَّهُم عن البِدَعِ المُستحدَثةِ، ويَسلُكَ بهم طريقَ السَّلَفِ في العَمَلِ والعَقِيدةِ" (انتهى).

ويقول ابنُه الدُّكتور فِهْر محمود شاكر: "كانت الحِدَّةُ شيئًا أساسيًّا في طِباعِه -رحمه الله-، لكنَّها كانت تَظهرُ في مَواقفَ مُعيَّنةٍ، حينما يَقرأُ أو يَسمعُ ما يَمَسُّ أيًّا ممّا يُؤمِنُ به وما وَهَبَ حياتَه له، كأنْ يَقرأَ تَطاوُلاتٍ على الإسلامِ أو العربيَّةِ، أو يَقرأَ خَوْضًا في حياةِ وسِيَرِ الصَّحابةِ ورجالِ التَّاريخِ الإسلاميّ" (انتهى).

وقبل أن أَطْوِيَ هذه الصفحةَ مِن صفحاتِ حياتِه الحافلةِ بالأحداثِ، أُحِبُّ أن أَذْكُرَ قِصَّةً قصيرةً حدثت له في أثناءِ هذه الرِّحلةِ، ذكرها في مجلسٍ مِن مَجالسِه العامرةِ في عاشوراء المحرم (1404 - أكتوبر 1983)؛ فقد قال -رحمه الله-: "أنا كنتُ صغيرًا، كنت مُهاجرًا، خرجتُ من مِصرَ بعد أن تركتُ الجامعةَ في سبيلِ قضيَّةٍ لا يَعلَمُ خَبَاياها إلا اللهُ -تعالى-، وأقمتُ بين جُدَّة ومكة سنتَين، وخرجتُ مِن مِصرَ مُهاجرًا على ألّا أَعُودَ إليها. ولَم تَكُنْ جزيرةُ العربِ في ذاك الوقتِ مُغْرِيَةً لا بالمالِ ولا بشيءٍ، فكانت هجرةً مِن القلب.

ومِن الغرائبِ: أنِّي كان لي صديقٌ، وهو الأستاذُ حسين نصيف، ابنُ محمد أفندي نصيف عظيم جُدَّة، وكانت بيني وبينهم مَوَدَّةٌ، فحَمَلُونِي على أن أَتَزَوَّجَ، في سنة 1929، فخطبتُ امرأةً مِن الحجاز، ولكن حَدَثَتْ حادثةٌ وأنا في السُّعوديَّةِ جعلتْني أَعْزِمُ فَوْرًا على أن أَعُودَ إلى مِصرَ كما عَزَمْتُ على أن أُهَاجِرَ منها قبل ذلك على خلافِ إرادةِ والدِي وأساتذتِي جميعًا في الجامعةِ وفي غير الجامعة.

فعدتُ إلى مِصرَ في سنة 1929، وهي السَّنةُ التي وُلِدَتْ فيها أُمُّ فِهْرٍ، وهي الحفيدةُ الصُّغْرى مِن أحفادِ الشَّيحِ حسن الكفراوي (ت 1202هـ - 1788م)، شارحِ الآجُرُّومِيَّة...) (انتهى).

والحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين.