الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 03 يونيو 2024 - 26 ذو القعدة 1445هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (166) دعوة غيَّرت وجه الأرض (13)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).

الفائدة الرابعة عشرة:

من أدلة جعل الله وخلقه لأفعال العباد: (‌إِنَّ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌يُنْفِقُونَ ‌أَمْوَالَهُمْ ‌لِيَصُدُّوا ‌عَنْ ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ ‌فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ . لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال: 36-37).

فبيَّن الله في هذه الآية الكريمة: أن كل ما نراه من إنفاق الكفار الأموال والجهود للصد عن سبيل الله، وهذا يشمل أنواع السلاح التي يعدونها، والمركبات والطائرات والدبابات، والإعلام المضلل الذي يفتن الناس حتى يروا الحق باطلًا والباطل حقًّا، وحتى يؤثروا شهوات الدنيا المحرمة الفانية على القرب من الله ونعيم الجنة؛ أن كل هذا من الصد، وعاقبته إلى الخسران والبوار، ومحق المكر السيئ الذي عنده يتحسرون على ما أنفقوا وما بذلوا من جهود، والذي ينتهي ويضمحل، ويُغلَب الكفار؛ كل هذا بجعل الله وخلقه؛ (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) مشاهدًا للناس مرئيًّا بعد أن كان في عِلْم الله أذلًا، وليميز الخبيث من الطيب واقعًا بعد أن صار الخبيث في علمه خبيثًا في الواقع قد فعله الناس، وصار الطيب في علمه طيبًا في الواقع قد فعله الناس، ثم يجعل الله هذا الابتلاء بقوة الكفار وإنفاقهم سببًا لجعل الخبيث يجتمع مع الخبيث حتى يكثر ويتراكم، وكلما ازدادت الفتنة زاد اجتماع الخبيث بعضه على بعض، حتى إذا جاء وقت بطلانه ومحقة بقدر الله؛ جعل الله هذا الركام الخبيث المجتمع كله في جهنم.

وهنا يظهر مَن الذي كسب ومن الذي خسر، ومن الذي انتصر ومن الذي انهزم، وهذا من أعظم ما يعين الله به المؤمنين على الثبات والصبر على البلايا العظيمة التي تفوق تحمُّل غيرهم من البشر، فما نراه في غزة يفوق طاقة البشر في حياتهم العادية، ولكن صبر المؤمنين والمؤمنات تراه في وجوههم، ونبرات ألسنتهم، وصفة حياتهم وتصرفاتهم؛ لأن هذا الإيمان بأن الله جعل ذلك الأمر، ثم ينتهي الباطل ويظهر الحق (‌وَقُلْ ‌جَاءَ ‌الْحَقُّ ‌وَزَهَقَ ‌الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81).

ومن هذه الأدلة على جعل الله -عز وجل- وخلقه لأفعال العباد: قوله -تعالى-: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ‌فَأَنْزَلَ ‌اللَّهُ ‌سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).

وهذه الآية من أعظم المبشِّرات للمؤمنين؛ لأن (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى) التي تتضمن الكفر والفسوق والعصيان تعلو فيما يبدو للناس في أزمنة كثيرة، وأمكنة كثيرة، وتنتشر في العالم وينتشر تشويه الإسلام بها ويضلون عن سبيل الله، لكنه -عز وجل- بعزته وحكمته كما نصر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في الغار ومعه صاحبه رغم كل الأسباب التي تؤدي أن يمسك الكفار بهما ويفعلون بهما ما يريدون لإيقاف دعوة الحق، فإنه -عز وجل- ينصر الإسلام وأهله في كل زمان ومكان رغم وجود المحاولات الكثيرة المستمرة التي لا تتوقف بين الترغيب والترهيب، الترغيب في الباطل والترهيب من الحق، والتشوية والتلبيس، واستعمال البطش والتنكيل والقتل لإزهاق الحق وأهله.

ومع ذلك فالله يجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، فمن يتصور أن الكفار مسيطرون على العالم بأسلحتهم الفتاكة وجنودهم، ومَن والاهم، وبأجهزة مخابراتهم التي يحصون بها على الناس كلماتهم، هو مخطئ في تصوره، بل خاطئ؛ فالأمر يدبره الله؛ لأن كلمتهم لا بد أن تصير إلى السفل والمحق، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ لأن من صفات الله العزة والحكمة، والله عزيز حكيم، فيستحيل أن يسلط ويزيل الباطل إزالة كاملة على الحق، يزول معها الحق بالكلية، بل هو -سبحانه- يمتحن عباده المؤمنين، ويجعل ما يفعله الكفار سببًا ليقظة أمة الإسلام مما يؤول في النهاية إلى علو كلمة الله الشرعية، كما أن كلماته الكونية يستحيل أن تُعَارض، ولا أن تُمَانع: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ‌صِدْقًا ‌وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115).

وهذا كله من أعظم ما يثبت الله به قلوب المؤمنين على الحق؛ لأنهم يعلمون أن هذا الذي يرونه في العالم من علو الباطل هو أمر في الظاهر، وهو مؤقت يوشك أن يزول، وأن تعلو كلمة الله -سبحانه وتعالى-، وأن تضمحل هذه الأباطيل، وهذا الكفر وهذا الصد عن سبيل الله، وهذا الظلم والعدوان؛ كل ذلك إلى اضمحلال -بإذن الله-.