كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما استقرَّ الحاج نوح في دمشقَ بأولادِه نجيب وفخري، وناجي وناصر، ومنصور، ومنير ووحيدة، تزوَّج الألبانيَّةَ كاملة قدري (تيزيا)، ولَم يُنجِب منها، أمّا أُمُّ الأولادِ خديجة الألبانيَّةُ فلَم تهاجر مع زوجِها وأولادِها من ألبانيا إلى بلاد الشّام؛ فقد انتقل نوحٌ بأولادِه من ضيقِ أنامالي بإشقودرة إلى سعةِ دمشق، وتحقَّق له مُرادُه الذي ضحَّى في سبيلِه بكُلِّ مُرتخَصٍ وغالٍ.
أمّا الفتى ناصر فقد ألحقَه والدُه مُباشرةً بمدرسةِ جمعيَّةِ الإسعافِ الخيريِّ بدمشق.
قال الشَّيخُ الألباني -رحمه الله-: "لمَّا هاجرنا من ألبانيا إلى دمشقَ ما كنتُ أعرفُ من اللُّغةِ العربيَّةِ شيئًا، بل كنتُ لا أعرفُ من الأحرفِ العربيَّةِ شيئًا، يبدو لأنّه لَم يكن هناك عنايةٌ مِن الوالدِ -رحمه الله- بتعليمِنا، مع أنّه كان إمامَ مسجدٍ، وربما كان شيخَ كُتّابٍ!
فلمّا جئنا إلى دمشقَ ما كُنّا نعرفُ شيئًا من القراءةِ والكتابةِ، كما يقولون عندنا في سُوريَّة: "ما نَعرِفُ الخَمْسةَ مِن الطَّمْسةِ، ولا الألِفَ مِن المَسطِيجَة"، والمسطيجةُ هي العصا الطَّويلةُ التي كان يستعملُها شيخُ الكُتّابِ حينما يريدُ أن يصطادَ آخِرَ ولدٍ يعبثُ هناك ويَطولُه بها.
فأدخلَني والدي المدرسةَ هناك، وكانت مدرسةً لِجمعيَّةٍ خيريَّةٍ، اسمُها جمعيَّةُ الإسعافِ الخيريّ؛ فهناك بدأتُ تعليمي، وبطبيعةِ الحالِ فبسببِ مُخالَطةِ الطُّلّابِ تعلَّمتُ اللُّغةَ العربيَّةَ، أو بالأحرى اللُّغةَ الشّاميَّةَ، أقوى مِن الذين لَم يكونوا مُنتمِينَ إلى المدرسة.
وأَذكُرُ جيِّدًا -يبدو لِتَقدُّمِي في السِّنِّ بالنسبة لِلطُّلّاب- أنني قد جاوزتُ السَّنةَ الأولى والثّانيةَ في سَنةٍ واحدةٍ، ولذلك حصَّلتُ الشَّهادةَ الابتدائيَّةَ في أربعِ سنوات.
فيبدو أنّ الله -عزّ وجلّ- قد فطرني على حُبِّ اللُّغةِ العربية، وهذا الحُبُّ كان السَّببَ المادِّيَّ بعد الفضل الإلهيّ في أن أكون مُتميِّزًا مُتفوِّقًا على زملائي السُّوريين في علم اللُّغةِ العربيَّةِ ونحوها.
وأَذكُرُ جيِّدًا أيضًا أنّ أستاذ النَّحو حينما كان يكتبُ جُملةً أو بيتَ شِعْرٍ على اللَّوح، ويسألُ الطُّلّابَ عن إعرابِ الجُملةِ أو البيتِ أكونُ آخِرَ مَن يطلبُ منه الجوابَ، وكنت يومئذٍ أُعرَفُ بالأرناؤوط، أمّا لقبُ الألباني ما عُرِفْتُ به إلا بعد أن خرجتُ من المدرسة وبدأتُ أكتب، وكلمةُ الأرناؤوط هي كلمةٌ عامَّةٌ تشبه أو تقابل العربَ، وكما أنّ العربَ ينقسمون إلى شُعوبٍ، ففيهم المِصريّ والشّاميّ والحجازيّ، إلى آخره، كذلك الأرناؤوط ينقسمون مثلًا إلى ألبان وصِرب -يوغسلاف- وبوشناق، فإذًا يوجد بين كلمةِ الألبان وكلمةِ الأرناؤوط عُمومٌ وخُصوصٌ، فالألبانُ أَخَصُّ مِن الأرناؤوط، فكان أستاذُ النَّحوِ يُخرجني آخِرَ واحدٍ إذا عجز الطُّلّابُ عن الإعرابِ، فيُناديني: يا أرناؤوط، ماذا تقول؟ فأصيبُ الهدفَ بكلمةٍ واحدةٍ، فيرجعُ فيُعيِّرُ السُّوريينَ بي، فيقولُ: أليس هذا عَيْبًا منكم؟! فهذا أرناؤوطي؛ فهذا مِن فضلِ اللهِ عليَّ" (انتهى).
وإلى لقاءٍ آخَرَ -بإذنِ الله-.
ونَسألُ اللهَ التَّوفيق.