كتبه/ طلعت مرزوق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالباحث في كتب اللغة يجد أن كلمة الجماعة تأتي بمعنى الاجتماع، ضد الفُرْقة والتفرُّق. وبمعنى الجَمْع والإجماع، وهو الاتفاق. وطائفة من الناس يجمعها شيء واحد.
وقد وردت في السنة النبوية وتفسير العلماء لها بمعنى:
- السواد الأعظم من أهل الإسلام، وهم الناجون من الفِرَق.
- المسلمون إذا اجتمعوا على إمام موافق للكتاب والسنة.
- أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر.
- الصحابة -رضي الله عنهم- على الخصوص.
- أئمة العلماء المجتهدين.
- أهل الحل والعقد.
- أهل المنعة والشوكة.
ومن جماع ما تقدَّم يتبين أن لها معنيين رئيسيين هما:
- الطريقة والمنهج.
- اجتماع المسلمين على إمام واحد.
واتباع الجماعة على المعنى الأول -الطريقة والمنهج- يعني اتباع أهل السنة وإجماع أهل العلم، ولا يسع أي إنسان الخروج على ذلك، فالمخالف لهم مبتدع أو كافر، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: (التَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ) (متفق عليه).
وعلى المعنى الثاني، يعني طاعة الإمام المسلم في غير معصية، وعدم الخروج عليه، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَخَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ) (رواه مسلم).
والغرض من الإمامة هو: إقامة الدين وسياسة الدنيا به، فإذا مات الإمام أو أُسِرَ أو عُزِلَ -الشغور الحسي-؛ فالواجب على أهل الحل والعقد أن يجتمعوا على من يصلح للإمامة، ثم تبايعه الأمة.
وإذا ارتد عن الإسلام -الشغور الشرعي- سقطت بيعته وطاعته -وإن بقي في موقعه- ووجب على المسلمين عزله ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، ولا يجب في المبتدع إلا مع القدرة.
قال الشوكاني -رحمه الله- بعد سياق روايات حديث: (إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وفيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدًا أن يؤمروا عليهم أحدهم؛ لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلاف، فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة.
وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون، فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى. وفي ذلك دليل لقول من قال: إنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام. (نيل الأوطار).
والأمة الإسلامية مطالبة بفروض الكفايات، وكثير منها مضيع جزئيًّا أو كليًّا في واقعنا الحاضر، فهل تسقط عن المسلمين؟ بالقطع لا.
وهل يمكن للأفراد المتفرقين القيام بها؟
لم يقل ذلك إلا الخوارج في الماضي، ومن ينكر شرعية العمل الجماعي للقيام بهذه الواجبات في الحاضر! نعم، بعض فروض الكفايات يمكن القيام بها دون عمل جماعي كغسل ميت وتكفينه، ولكن غالبها لا يقوم إلا به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا يصح أن وجود الإمام مسقط لذلك -أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمسلمين-، لكنه إذا قام بشيء منه، وجب على المسلمين معاضدته ومناصرته، وإن لم يقم به فالخطابات المقتضية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين على العموم باقية في أعناقهم، معدودة في أهم تكاليفهم، لا خلوص لهم عنها إلا بالقيام بها على الوجه الذي أمر الله به، وشرعه لعباده.
قال البغوي -رحمه الله- في شرح السُّنة: إن الأمور المخولة إلى الأئمة إذا غابوا عنها، فإنه يتولاها من وجد من المسلمين من غير إمرة من الأئمة والخلفاء.
وكذا قال الجويني -رحمه الله- في غياث الأمم، والشوكاني -رحمه الله- في السيل الجرار، عند قول المصنف: "ومَن صَلُحَ لِشَيْءٍ وَلَا إِمَامَ، فَعَلَهُ بِلَا نَصْبٍ عَلَى الْأَصَحِّ". وابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري عند شرح حديث أنس -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَعَى زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (رواه البخاري).
ومن هنا تعلم بطلان القول بتبديع العمل الجماعي، أو أن الواجب هو الاعتزال الوارد في حديث حذيفة -رضي الله عنه- المتفق عليه: (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا) (متفق عليه)؛ لأن الحديث مخصوص وليس عامًّا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم)، كما أن المقصود بالفرق في حديث حذيفة هم الدعاة على أبواب جهنم.
واعلم أن تعدد كيانات أهل السنة الناشئ عن اختلاف البلاد وتباعدها، أو تنوع الواجبات، ونحو ذلك -مع اتحاد المنهج- من باب المتاح المقدور، لا من باب المرجو المأمول؛ فهذه الكيانات منفردة جماعة من المسلمين، لا جماعة المسلمين.
وإذا كان هذا هو أصل مشروعية العمل الجماعي (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، فإن حكمه يدور مع الأحكام التكليفية، فإذا كان الأمر واجبًا كإقامة الجمعة مثلًا، كان التزام ذلك الأمر من عالم أهل السنة بهذا البلد واجبًا.
وإذا كان الأمر مستحبًّا كقيام ليل ونحوه، كان التزام الأمر مستحبًّا، ما لم يكن في ترك هذا المستحب تضييع لواجب، أو تسببًا في حرام.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.