كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- ترك الحج من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائر، فهو فارق بين الإيمان والكفر: قال الله -تعالى-: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران: 97). قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "من مات ولم يحج وهو قادر، فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا" (قال ابن كثير: "وإسناده صحيح إلى عمر -رضي الله عنه-").
(1) مكانة الحج من الدين:
- الحج عبادة من أجل العبادات في دين الأنبياء -عليهم السلام- منذ فجر التاريخ: قال -تعالى- لأبي الأنبياء: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج: 27، 28).
- الحج ركن من أركان الدين والإيمان في الإسلام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).
- كانت شرائع الإسلام تنزل شيئًا فشيئًا، ونزل الفرض بالحج في أواخر الشرائع، فصار مسك الختام، وكمال الدين وتمام النعمة والإيمان؛ ولهذا لما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنزل الله قول -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: 3).
- ولا عذر في ترك الحج أو تأخيره لمن ملك الاستطاعة ولو كان مريضًا: ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قال: فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ.. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع" (متفق عليه).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِى أَدْرَكَ الإِسْلاَمَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ)، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دِينٌ فَقَضَيْتَهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاحْجُجْ عَنْهُ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).
- وجاءت نصوص الوعيد فيمن ترك الحج مع استطاعته، أو مات ولم يحج: قال -تعالى-: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97). قال ابن عباس ومجاهد -رضي الله عنهما- في هذه الآية: "مَن لم يرَ حجه بِرًّا، ولا تركه إثمًا، كفر" (سنن البيهقي)، وقال السدى: "من وجد ما يحج به ثم لا يحج، فهو كافر" (تفسير ابن جرير)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة -يعني سعة من المال- ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين" (صححه ابن حجر في تلخيص الحبير)، وقال سعيد بن جبير: "لو كان لي جار موسر ثم مات ولم يحج لم أصلِّ عليه" (مصنف ابن أبي شيبه)، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "ومن استطاع السبيل فلم يحج فإسلامه وإيمانه ودينه في اختلال، وهو أعظم جرمًا من الزاني والسارق وشارب الخمر" (خطب الشيخ السعدي في مجموع مؤلفاته).
(2) فضل رحلة الحج والعمرة:
- إنها الرحلة إلى الله تلبية لأمره، مع هجر الأوطان وبذل الأموال وتحمل المشاق، طلبا للمغفرة: قال -تعالى-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج: 27، 28)، وفى الحديث القدسي: (عِبادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي ويَخَافُونَ عَذَابِي) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
- إنها رحلة التكفير عن الذنوب، والبركة في الأموال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ) (رواه الترمذي والنسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح").
- إنها رحلة النزول في ضيافة أكرم الأكرمين -سبحانه وتعالى-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَفْدُ اللهِ ثَلَاثَةٌ: الْغَازِي، وَالْحَاجُّ، وَالْمُعْتَمِرُ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الحُجَّاجُ والعُمَّارُ وَفْدُ الله، دَعاهُمْ فأجابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطاهُمْ( (رواه البزار، وحسنه الألباني).
(3) أعذار واهية عند التاركين:
- الأعذار تختلف وتتنوع بين التاركين، ولكن جملتها وأشهرها أمور: (البخل بالمال - الخوف من المشقة - صغر السن).
- كيف يبخل بالمال على نفسِه في أداء هذه الفريضة، وهو ينفق الكثيرَ من ماله فيما تهواه نفسُه؟! وكيف يوفِّر نفسَه عن التعب في الحجِّ وهو يُرهِق نفسَه في التعب في أمور دنياه؟! وكيف يتثاقل فريضةَ الحج وهو لا يَجِب في العمر سوى مرَّة واحدة؟! وكيف يتراخَى ويؤخِّر أداءه وهو لا يَدري لعلَّه لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه؟!
- سارع وعجِّل، فالدنيا لا تدوم على حال: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ المَرِيضُ وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرُضُ الحَاجَة) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وعند الإمام البيهقي بلفظ: (عجِّلوا الْخُروجَ إلى مَكَّةَ، فإنَّ أحدَكُم لا يدري ما يعرِضُ لهُ من مرضٍ أو حاجةٍ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون: 10).
خاتمة: أين أنت من هؤلاء؟
- مشتاقة إلى البيت تموت عند رؤيته لأول مرة: "قال عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مِنْ خُرَاسَانَ وَمَعَنَا امْرَأَةٌ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَرَمَ جَعَلَتْ تَقُولُ: أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ فَقِيلَ لَهَا: الْآنَ تَأْتِينَ بَيْتَ رَبِّكِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَسْجِدَ قِيلَ لَهَا: هَذَا بَيْتُ رَبِّكِ، قَالَ: فَاسْتَنَدَتْ إِلَى الْبَيْتِ فَوَضَعَتْ خَدَّهَا عَلَى الْبَيْتِ، فَمَا زَالَتْ تَبْكِي حَتَّى مَاتَتْ!" (أخبار مكة للفاكهي).
- وأخرى خائفة طامعة في مغفرة ثقيل الذنوب، فتأوي إلى بيت ربها: "قَالَ وَهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: بَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي الطَّوَافِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهَي تَقُولُ: يَا رَبِّ ذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ وَبَقِيَتِ التَّبِعَاتُ، يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَعِزَّتِكَ إِنَّكَ لَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؛ يَا رَبِّ مَا لَكَ عُقُوبَةٌ إِلَّا النَّارُ؟ أما في عفوك ما يَسَعُني؟، فَقَالَتْ صَاحِبَةٌ لَهَا كَانَتْ مَعَهَا: يَا أُخَيَّةُ دَخَلْتِ بَيْتَ رَبِّكِ الْيَوْمَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى هَاتَيْنِ الْقَدَمَيْنِ وَأَشَارَتْ إِلَى قَدَمَيْهَا أَهْلًا لِلطَّوَافِ حَوْلَ بَيْتِ رَبِّي فَكَيْفَ أَرَاهُمَا أَهْلًا أَطَأُ بِهِمَا بَيْتَ رَبِّي؟ وَقَدْ عَلِمْتُ حَيْثُ مَشَتَا وَإِلَى أَيْنَ مَشَتَا؟" (محاسبة النفس لابن أبي الدنيا).
- فقير مشتاق إلى البيت: "يحكي بعض إخواننا العاملين في مجال المقاولات: كان معنا رجل من العاملين كلما جلسنا ساعة الغداء أثناء العمل نتحدث، فإذا جاء الحديث عن الحج والعمرة في أي وقت، فإذا بالرجل يبكي شوقًا إلى زيارة بيت الله على أي درجة (حجًّا أو عمرة)، ولكن الفقر كان حائلًا بينه وبين ذلك... حتى كان يوم ونحن أثناء الغداء، وقد أثار بعض الجلوس الحديث عن فلان الذي ذهب إلى العمرة، فإذا بصاحبنا المشتاق ينفجر بكاءً وتأثرًا! وفى نفس الوقت مرَّ بنا المقاول صاحب العمل، فلما رأى الرجل يبكي، سأل عن سبب ذلك؟ فقلنا له قصته، وشوقه وتأثره كلما ذكر البيت والزيارة! فتأثر الرجل المقاول لذلك، ثم طلب منا أن نحضر أوراق الرجل، وقام باستخراج جواز سفر له، وحجز له رحلة عمرة في شركة سياحة! فسبحان الذي قال: (وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه).
خاتمة:
- فيا مَن شغلته الدنيا عن فريضة الحج، وأكلتْ سوف من عمره عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين أو خمسين...! كيف تمر في تلاوتك للقرآن على قول الله -تعالى-: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران: 97).
- كيف تهنأ بنومك ولما تقضِ فرضك ولا عذر لك؟! فبمَ تجيب الله -تعالى- حين أخرت فرضه، وقدمت عليه غيره؟! قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ? وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ . وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون: 9-11).
فاللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وارزقنا زيارة بيتك حاجين أو معتمرين.