كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ . رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم: 35-41).
هناك نقاط فاصلة في تاريخ البشرية تمثِّل سرجًا منيرة، تبيِّن لهم طريقهم إلى الله، وتعرفهم بدايتهم وبداية العالم، ونهايتهم ونهاية العالم، وعواقب فئاتهم وطوائفهم، ومن هذه النقاط المضيئة: تكوين مكة المكرمة التي صارت بعد آلاف السنين مِن تأسيسها وتعميرها مصدرًا لأعظم نورٍ وَصَل إلى أهل الأرض عبر الزمان ببعثة السراج المنير -عليه الصلاة والسلام-، ونزول الوحي بالكتاب المنير الذي أضاء للبشرية حقائق الوجود، وأحيا قلوب مَن آمن به مِن الموت الذي كانوا فيه: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام: 122).
فكان أعظم تغيير في حياة البشر إلى أفضل نظام للحياة في الدنيا والآخرة بعد الجاهلية والظلم الذي كانت فيه، وإذا تأملنا بداية نشأة هذه البلدة؛ لوجدنا معجزة باهرة، ودعوة مستجابة غيَّر الله بها وجه الأرض والزمان؛ فهي أرض جَبَليَّة لا تصلح للزراعة، ولا ماء فيها، ولا مقومات للحياة نهائيًّا؛ فإذا بها تصبح أشد بقعة في الكرة الأرضية ازدحامًا بالحياة؛ حياة الأبدان وحياة القلوب، فلا توجد بقعة في العالم تزدحم بهذه الأعداد الهائلة من البشر طوال أيام السنة؛ إضافة إلى أيام المواسم: كالحج وشهر رمضان المبارك، التي تشهد بالفعل أعظم ازدحام في العالم، يشارك فيه بشر مؤمنون من كل قارات الأرض، وحياة القلوب بالإيمان والقرب من الله، وكثرة التعبد له بأنواع الطواف والقيام، والركوع والسجود والاعتكاف، في بيته الحرام، وغير ذلك من قراءة القرآن والتسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، وأنواع الأذكار التي علمناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- النصيب الأكبر في تأسيس مكة وتعميرها بعد أن كانت لا أنيس بها ولا أحد؛ فأتى بولده إسماعيل -صلى الله عليه وسلم- وأمه هاجر -رضي الله عنها- وتركهما إلى الله -سبحانه- الكافي مَن توكل عليه -سبحانه وتعالى-؛ لتأتي مقومات الحياة إليهما بقدرة الله -عز وجل-، سبحانه وحده لا شريك له، ثم بهذه الدعوات التي مَنَّ الله علينا بتعليمنا إياها بذكرها في القرآن كان بداية تعمير مكة، ثم استمرار ذلك بهذه الدعوات.
ولنذكر تفسير هذه الآيات وفوائدها؛ عسى الله أن ينوِّر بها قلوبنا.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "يَذْكُرُ -تَعَالَى- فِي هَذَا الْمَقَامِ مُحْتَجًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، بِأَنَّ الْبَلَدَ الْحَرَامَ مَكَّةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ أَوَّلَ مَا وُضِعَتْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَتْ عَامِرَةً بِسَبَبِهِ، آهِلَةً تَبَرَّأَ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ بِالْأَمْنِ فَقَالَ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ -تَعَالَى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت: 67)، وَقَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 96-97)، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) فعرفه كأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) (إبراهيم: 39)، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة، فإنه دعا أيضًا فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولًا. (قلتُ: وقد مضى ذلك بيِّنًا في أول المقالات).
وقوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ)، ينبغي لكل داعٍ أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته، ثم ذكر أنه افتُتن بالأصنام خلائق من الناس، وأنه بَرِيءٌ ممَّن عبدها، ورد أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، كما قال عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)، وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى، لا تجويز وقوع ذلك.
قال عبد الله بن وهب -وذكر سنده عن عبد الله بن عمر-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا قول إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) الآية، وقول عيسى -عليه السلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ثم رفع يديه، ثم قال: "اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي"، وبكى فقال الله: اذهب إلى محمد -وربك أعلم- وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل، -عليه السلام-، فسأله، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فقال الله: اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. (رواه الطبري في تفسيره)".
وللحديث بقية -إن شاء الله-.