من تراث الدعوة حول القضية الفلسطينية
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة، مجتمعة فيمَن يطيع الله -سبحانه وتعالى- في وقت الشدة، لماذا؟ لأنك أثناء الشدة تحتاج إلى صبر شديد، الكل يريد أن يبعدك عن الطاعة، ويقول: ابتعد عن هذه الطاعة كي تسير حياتك بسهولة!
لا والله، الحياة لا تسير بسهولة بغير طاعة الله، وإن ظنَّ الناس أنهم يعيشون حياة سهلة، فانظر إلى متاعب الناس الذين ابتعدوا عن الإسلام، وابتعدوا عن الدين، هل يعيشون حياة سهلة أم ضنكًا؟!
والله إنها حياة ضنكٍ وشقاء بأنواعه، حتى الأغنياء وحتى الملوك والرؤساء والكبراء، وحتى السادة المبرزون المشهورون، فإن حياة الضنك تحيط بهم كما توعد الله فقال: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه:123-126)، ولو لم يكونوا في ضنك فلماذا يشربون الخمر؟! ولماذا يستعملون المخدرات؟! ولماذا يريدون أن يسيحوا في الأرض وينطلقوا بحثًا عن اللذات؟ لو أن الإنسان كان سعيدًا؛ فلماذا يبحث عن أسباب أقوى للمتعة؟! لماذا يغيب عقله؟!
ثم ننتقل بعد ذلك إلى مقام الصبر -الصبر بأنواعه الثلاثة- وهي مجتمعة فيمَن يطيع الله، في فترات الشدة والمحن، وهي مجتمعة بالفعل؛ لأن الصبر صبر على الطاعات: وهو أعلى أنواع الصبر، وصبر عن المعاصي: وهو حبس النفس عنها، وصبر على أقدار الله المؤلمة، والإنسان تصيبه أشياء مؤلمة.
على أي الأحوال لا تخلو الحياة من ألم؛ منذ نزل آدم -عليه السلام- والإنسان يشقى، الدنيا فيها ضنك، لا بد من وجود ألم في الدنيا، ولكن من الناس من يجري عليه الألم وهو في معصية الله، وهناك من يجري عليه الألم بغير طاعة ولا معصية، بل مصيبة تصيبه، وهناك من يجري عليه الألم من الكفار وهم في الكفر -والعياذ بالله-.
أما الصبر عن المعاصي فالكل يدعوك إلى المعاصي، وانتشار الفساد يجعل المعصية سهلة، يجعل المعاصي في متناول كل إنسان، إذا أراد شاب مثلًا: أن ينال من فتاة شيئًا أيصعب عليه ذلك في وسط هذا الكم الهائل من التسيب والانحلال والإباحية؟ ولذلك فالصبر في هذا المقام أعظم من الصبر عن هذه المعصية في مجتمع مسلم كل الفتيات فيه محجبات، والرجال فيه -رجال- يمنعون نساءهم من الاختلاط المحرم الفاسد، ويمنعون بناتهم وأخواتهم من ذلك، المجتمع كله يذم من يزني، ويذم من ينظر، ويذم من يعاكس، ويتوعده بالعقاب؛ أي الصبرين أعظم؟!
مع ما يوجد في المجتمع المسلم وهو مأمور بالصبر وكان ثوابه عظيمًا؛ فكيف في وسط الفساد المنتشر في الأرض، المبثوث في كل مكان، الذي يسهل معه أن ينال ما يريد إذا لم يكن يتقي الله -سبحانه وتعالى-.
أما الصبر على أقدار الله المؤلمة فإنما يصيبه بسبب طاعته؛ لأنه يتوعد ويخوف (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (الزمر:36)، وقد يصيبه في ذلك فيحتسب عند الله -سبحانه وتعالى-، ويصبر ويكون بذلك قد حصل أعظم أنواع الصبر.
استعينوا بالله واصبروا: هذه الكلمة الخالدة التي يحتاجها كل مسلم عبر التاريخ ثم يورث الله -سبحانه وتعالى- الأرض لعباده المتقين، قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
اليقين بوعد الله -سبحانه وتعالى- والصبر على دينه في فترات الشدائد؛ كل ذلك من أعظم الواجبات، عندما يقال لك ما قيل للرسل من قبل، عندما تُقبِل على الالتزام بطاعة الله -سبحانه وتعالى- يكون اليقين بوعد الله من أعظم مقامات العبادة، والإيمان أن توقن أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، توقن أن العاقبة للمتقين، لا تغتر بما يرى من بداية ترى فيها الموازين لصالح الكفر، وترى القوى في العالم بأسره بأيدي المشركين، والله إن ذلك اختبار لك لكي تستحضر ما أخبر الله -سبحانه وتعالى- به من أن المؤمنين هم المنتصرون، وتتذكر ذلك لتزداد يقينًا بوعد الله؛ هذه الآية الكريمة من المبشِّرات: (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128).
قال -عز وجل- في معنى هذه الآية آيات كثيرة لكي نستيقن بوعد الله -سبحانه وتعالى-، قال -عز وجل-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) (الأنبياء:105- 106)، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) أي: في جنس الكتب المنزلة على الأنبياء وهي: الكتب التي تزبر -أي تكتب- (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي: من بعد كتابه ذلك في اللوح المحفوظ (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، العبادة والصلاح وصف الوارثين للأرض.
إذًا حقق الصلاح واجتهد في العبودية لكي تكون ممَّن يرث الأرض كما قال بعدها: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ)، إذًا نحتاج في هذا المقام إلى الاجتهاد في العبادة، وإلى أن نكثر من الصلاة والصيام والدعاء والتضرع إلى الله -سبحانه وتعالى- وخصوصًا إذا خوفت كما قال -عز وجل-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:173- 175).
لذلك أنت تحتاج إلى تتبع رضوان الله، افعل ما يرضي الله... أكثر من الطاعة... أكثر من العبادة، ومن الذكر ومن الدعاء؛ فإن ذلك من أعظم ما يعينك على الثبات على دين الله -سبحانه وتعالى-.
ومِن أعظم ما يحتاج إليه المؤمن: أن يكون مع إخوانه في الله، يوثق علاقته بهم، ويتعاون معهم على نصرة الدين وإقامة شرع الله، ولا يبتعد عنهم.
فمجتمعنا الذي كان في يوم من الأيام مجتمعًا مثاليًّا يعيش الناس فيه بالإسلام وللإسلام؛ ينجو بأفراده وجماعاته لا يعبأ بالفتن، ولا تنال منه المحن، ولا تستميله الشهوات، ولا تضله الشبهات، ابتَعد شيئًا فشيئًا عن حقيقة الالتزام بدين الله ولم يبقَ منه على الخير إلا بقية قليلة لاذوا بقوارب النجاة وتحصنوا بالدعوة إلى الله وملازمة المساجد، ومصاحبة أهل الخير ممَّن يدعون إلى إقامة دين الله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بحكمة وبصيرة، وهؤلاء هم الأحياء -أحياء القلوب- الذين نجوا بسفينة السُّنَّة، وفطنوا لشراك البدعة فأفلتوا منها.
نحن كنا كركاب سفينة كبيرة، ولكنها غرقت وبقيت لنا قوارب نجاة يجتمع فيها بعض مَن يلتمس النجاة، وأسماك القرش في البحر المتلاطم الأمواج تحيط بقوارب النجاة من كلِّ جانب وتنهش في جوانبه، وهي ليست كالسفينة شديدة محكمة، بل هي مطاطية؛ أسماك القرش ربما تأخذها من جوانبه وتفزع كل من فيها، ومع ذلك أتظنون عاقلًا يقول: أسماك القرش تحيط بالقارب وأنا أريد إنقاذ نفسي، سوف ألقي بنفسي في البحر، أيكون عاقلًا هذا الذي يلقي بنفسه وسط الأسماك ويترك قارب النجاة الوحيد؟! لا شك أنه هالك قبلهم، وأسماك القرش تفعل ذلك لكي يلقي الناس أنفسهم إليها لكي يأكلوهم أكلًا، وأما العاقل فهو يسعى إلى سدِّ ثغرات القارب ونزح المياه التي تأتي عليه من البحر.
ولا شك أن أمواج الفتن عالية ورياحها عاتية، والأخطار محدقة، ونذر الهلاك كثيرة، لكن لا بد أن نتعاون على حفظ هذا القارب.
المجتمع الذي كان في يوم من الأيام مجتمعًا مثاليًّا يعيش الناس فيه بالإسلام وللإسلام منذ مئات السنين غرق تدريجيًّا إلى أن صار بعيدًا عن حقيقة الالتزام بالإسلام، وبقيت فيه قوارب النجاة، وهي مَن يدعو إلى الله -عز وجل- ويلتزم من أهل المساجد ومن أهل الخير، وممَّن يدعون إلى إقامة دين الله؛ فهذه قوارب النجاة، أما أسماك القرش حولك -وهي أهل الفتن- الذين يقولون لك: "ابتعد عن هؤلاء لكي تطمئن!"؛ لماذا هم المقصودون؟ لأنهم هم الباقون؛ لأن الآخرين قد غرقوا، لا يريد أحد أن يبحث عن هؤلاء الموتى، وإنما يريدون هؤلاء الأحياء -أحياء القلوب-؛ لذلك الخطر كل الخطر أن تذهب بنفسك إلى أمواج الفتن، وأن تبتعد عن أسباب طاعة الله -سبحانه وتعالى-؛ هذه أمور لا بد أن تكون على بينة منها لكي تثبُت على دين الله -سبحانه وتعالى-، وكي تستمر على طريق الهداية، رغم كل أنواع المعوقات والعقبات التي تموج بنا في الطريق.
وكذلك وصية أخرى نختم بها كلامنا: أعظم ما يحيي القلب هو ما أنزله الله روحًا من عنده؛ "كتاب الله -سبحانه وتعالى-"، الذي لا بد أن نستمد منه الحياة، قال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) (الشورى:52، 53).
ولا أعني بذلك مجرد تصحيح اللسان، وحفظ الحروف والكلمات -وإن كان ذلك هو الخطوة الأولى اللازمة-، ولكن لا بد بعدها من التدبر وإمرار الآيات على القلوب: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (ص:29)، وليكن تصحيحك للحروف والكلمات وسيلة إلى تدبر قلبك لها، كما قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ عَلِمْتُ مَكَانَكَ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا) (رواه البخاري ومسلم، وابن حبان واللفظ له)، أي: لزينتُ لك القرآن بصوتي تزيينًا، وأنت تريد بتصحيح الكلمات والحروف أن تتفهم القرآن أكثر؛ لأن مَن لا يحسن القراءة ربما يفوت على نفسه خيرًا كثيرًا من التدبر في القراءة؛ بسبب عدم إتقانه للقراءة.
فنصيحتي إلى إخواني وأبنائي الشباب... أن يستغلوا هذه الفرصة، فأنت في مرحلة يمكنك أن تحفظ، ولكن كما ذكرتُ لا يكون همك أنهم سيقولون عنك: إنك متقن أو ستُعطى إجازة تفخر بها وتعلِّقها على الجدران، أو تعمل بها في أوقات تحتاج إلى العمل فيها.
ولكن اجعل ذلك وسيلة إلى الغاية المقصودة، فإنما أنزله الله القرآن للتدبر: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (ص: 29)، نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم، وأن يثبِّت قلوبنا على دينه.
اللهم يا مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من عبادك المخلصين.