من تراث الدعوة حول القضية الفلسطينية
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قضى الله -عز وجل- بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولًا (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:140- 141).
فجعل الله -عز وجل- الأيام يتناوب الناس فيها اليسر والعسر، والعز والذل، والتمكين والاستضعاف، وقدَّر الله -سبحانه وتعالى- لأنبيائه ورسله -وهم صفوته من خلقه- وقدر أيضًا على أوليائه، أن تمر عليهم فترات من المحن والشدائد، وأن تمر عليهم فترات يُستضعفون فيها في الأرض، وأن يكونوا قِلَّة أذلة (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال:26).
قدَّر الله -عز وجل- ذلك، مع كونه لا يحب الظالمين ولا يحب الكافرين، وإنما سلطهم مدة وجيزة من الزمن على عباده المؤمنين؛ ليستخرج من عبده المؤمن أنواعًا من العبودية يحبها، ولا يمكن أن توجد هذه الأنواع لو أنه هدى الناس جميعًا، وهو -عز وجل- لو شاء لهدى الناس جميعًا، وأمره -سبحانه وتعالى- لا يحتاج إلى تكرار وتثنية، (وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر: 50).
يقع ما أمر -سبحانه وتعالى- به، وهو -عز وجل- لا يعجزه أن يجعل الناس أمة واحدة على الإيمان، حتى أعدى أعداء الدين هو قادر -عز وجل- أن يقلب قلوبهم على الهدى، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، لكنه قدَّر ذلك للحكم البالغة، فله الحمد -سبحانه وتعالى- عليها؛ لذلك عندما يجد المؤمن المسلمين يصابون بأنواع المصائب والمحن، ويضطهدون بأنواع الاضطهاد، ويجد الفساد ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويرى البلاء والمحن، ويرى أنواع الشدائد يحمد الله -سبحانه وتعالى-.
ولا بد أن تقع في قلبه معانٍ إيمانية ضرورية لكي يستفيد من هذه المرحلة التي قدرها الله -عز وجل-؛ في الحقيقة ليظهر فيه الخير، ليخرج -سبحانه وتعالى- من قلوب أوليائه ما يحب من الاستعانة به، والصبر على طاعته -سبحانه وتعالى-، وعلى ما يصيب الإنسان بسبب مخالفته لأهل الفساد والكفر والنفاق.
وكذلك ليوقن المؤمن بوعد الله -سبحانه وتعالى-، ويستحضر أن الله الذي أعطى، وأن الله الذي مَنَّ، وأن الله الذي آوى؛ لأنه سوف تأتي عليهم فترات يكونون هم ملوك الدنيا فوق الخلق يتحكمون فيهم فيما يبدو لهم، فهل يكونون في ذلك كملوك الدنيا وأهل الدنيا، يتحكمون فيهم لأنفسهم ولهواهم ويقولون: صنعنا وانتصرنا وغلبنا وقهرنا، و(إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص: 78)، (هَذَا لِي) (فصلت:50)، ونحو ذلك مما قصَّ الله علينا من كلام الكفرة والفسقة والفاجرين؟! أم يعلمون أن الله -سبحانه- هو الذي أورثهم الأرض بمشيئته -سبحانه وتعالى-، لا بقدرتهم، ولا بتخطيطهم، ولا بأعدادهم.
هناك معان إيمانية لا بد أن يستحضرها المؤمن عندما يمر بظروف تشبه الظروف التي مَرَّ بها أنبياء الله -سبحانه وتعالى- من قبل:
أول هذه المعاني أن يشهد المؤمن قضاء الله -عز وجل- وقدرته، وحكمته وعدله -سبحانه وتعالى-، ويشهد أن الأمور كلها بقضاء (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49)، وذلك من أعظم ثمرات الإيمان، وأن يشهد خلق الله -عز وجل- لأفعال العباد، وأنه هو -سبحانه وتعالى- الذي جعلهم كذلك، ليستحضر ملك الله، وليستحضر عزته وقهره -عز وجل-.
انظر وتأمل في قول موسى -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو ربه -عز وجل-: (رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس:88).
وموسى -عليه الصلاة والسلام- لم يستحضر في هذه اللحظة أن فرعون عنده ما عنده من المال والجنود والملك والسلطان، لم يستحضر هذا المعنى، وإنما استحضر أن الله آتاه، فقال: (رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ)؛ لم يستحضر إلا أن فرعون آلة لنفوذ قضاء الله وقدره، وهذا والله من أعظم الأمور أهمية، حين يرى العبد أن مَن يواجههم مِن الكفرة والظالمين أعداء الإسلام أضعف وأذل من أن يرجوهم أو يخالفهم أو أن يظن أن الأمور بأيديهم، لماذا يسير الناس في ركب الظالمين؟ ولماذا يداهنون الكافرين؟ لماذا يوالونهم؟
ذكر الله -عز وجل- عن المنافقين ذلك بأنهم يخشون أن تكون الدولة والغلبة لهم، يخشون أن تكون هناك مرحلة أخرى، فهم يعدون العدة لذلك، وحينما يكون الأمر بالفعل للكفرة والظلمة فإن أكثر الناس تبع لهم؛ لأنهم استحضروا أن الملك لهؤلاء كما قال الله -عز وجل- عن المنافقين: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء:138).
فضحهم الله -عز وجل- وبيَّن حقيقة ما في قلوبهم؛ أنهم يتولون الذين كفروا لأنهم يبتغون عندهم العزة، ويعاونون على الفساد؛ لأنهم يريدون مِن المفسد مكانة ومنزلة؛ لم يستحضروا أن المُلْكَ لله، وأن الله الذي آتى فرعون وملأه زينة وأموالًا في الحياة الدنيا، وأنه -سبحانه- الذي قدَّر أن يوجد من يضل عن سبيله، وفي قدرته أن يمحوهم في لحظة، وفي قدرته -سبحانه وتعالى- أن يزيلهم مِن على وجه الأرض، ومع ذلك قدَّر ربنا أن يضلوا عن سبيله.
ولماذا قدر الله ذلك؟!
لأن هناك قلوبًا خبيثة، وهناك ما يشبه المغناطيس يجذبها له، كما قال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:36-37).
الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وذلك سيكون عليهم بعد ذلك حسرة: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) يتحسرون لماذا؟! لأنهم لا يجدون ثمرة لما يفعلون، يجدون عكس ما يريدون من صد الناس عن سبيل الله. وفي نهاية الأمر: (ثُمَّ يُغْلَبُونَ).
وتأمل ذكر (ثُمَّ) في هذا الموضع، وهي للتراخي؛ لكي تطمئن، لكي يسكن قلبك؛ ولكي تعلم أن الأمور كلها بمقادير، وأنها لها موعد محدد، ولا تقل: لماذا لم يأخذهم الله الآن؟ لماذا تركهم يفسدون في الأرض ثم يغلبون؟ ثم سوف يأتي ذلك الزمان.
ولذلك قال الله -عز وجل- لنبيه: (وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (الأحقاف:35)، فإياك أن تستعجل، واعلم أن كل شيء بحكمة وبقدر من الله -عز وجل- الملك المليك المقتدر، فهو -عز وجل- الذي آتى فرعون وأمثاله في كل زمان هذه القوة والزينة.
وقال -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام:112-113).
تأمل -والله- هذه الكنوز القرآنية، تأمل أن الله الذي جعل، وهذا أول ما ينبغي أن تلحظه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)، لم يقل كذلك كان لكل نبي وإنما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)، فالله الذي خلق في قلوبهم ذلك كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ)، وبدأ بشياطين الإنس؛ لأنهم أكثر (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) يشير بعضهم على بعض، ويأمر بعضهم بعضًا، وينصح بعضهم على الفساد والكفر والنفاق، (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي: القول المزخرف الذي يحسبه سامعه حقًّا وهو باطل، وأكثر الناس ليس عندهم من التمييز والقدرة على معرفة النافع من الضار (غُرُورًا) أي: ليغروهم به.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) استحضر هذا جيدًا؛ أن كل الأمور بمشيئته -سبحانه-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)، ثم إذا تَمَّ ذلك بإذنه وحكمته، وَقَع ما أراد -سبحانه وتعالى-، وهو الذي قَدَّر -عز وجل- وجود الأعداء وكيد الأعداء، وكل ذلك لهوانهم عليه؛ ولذلك قال لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)، وهذا نوع من الاحتقار؛ لا تعبأ بهم، لا تقلق، لا تضطرب من ذلك، والخطاب في حقيقة الأمر لكل مؤمن كما قال: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) (آل عمران:196).
هم أهون على الله -سبحانه وتعالى- من أن يجعل لهم منزلة وقَدْرًا، ولو كانت الدنيا بأسرها تساوى عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء.
لو أن الدنيا بأسرها كانت تساوى عند الله شيئًا ما مَدَّ عمر إبليس ليطول في الدنيا، فهو منذ خلق الله آدم -عليه السلام- وأمر ملائكته بالسجود له فأبى، هو مخلوق قبل آدم، وسيبقى إلى قيام الساعة، سأل الله -تعالى- النظرة، فأعطاها الله له.
انظر لتعرف هذه الدنيا، ما أشد تفاهتها وحقارتها! فإن الله أعطاها لعدوه إبليس اللعين حين سألها؛ لأنها أتفه ما تكون؛ لذلك استحضر أن ذلك بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.