كتبه/ عبد الرحمن راضي العماري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبعض مَن يشرِّع للناس الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- يحتج بأن: (طرق الخير لا تنحصر فيما ورد في الشرع، وصور المحبة تتنوع وتتجدد)، وهذا حق يراد به باطل، ولافتة تمرر بها البدع، وتزيح السنن، وما أبلغ قول ابن مسعود -رضي الله عنه- لما قيل له: "إن أناسًا اخترعوا طريقة في ذكر الله (على منطق أنه خير، والخير لا تنحصر صوره، وأنه محبة لله وحب الله لا يقتصر على ما ورد في الشرع)، فقال لهم: والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه!".
ومن جملة التلبيس على الناس: استدعاء أعمال استجدت، وأقرها السلف الصالح والمسلمون من بعدهم والاستدلال بها على جواز الاحتفال بالمولد، وغيره من المحدثات، وهي في حقيقة الأمر تدخل تحت باب المصالح المرسلة، ومن ذلك: جمع القرآن في مصحف واحد، وتدوين الدواوين، وتصنيف العلوم الشرعية، والحق أن ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لها كان لمانع، أو لعدم وجود المقتضي، ففعله الناس بعد ذلك، لعدم المانع أو لوجود المقتضي، وأنه لم يتم الواجب وتتحقق مصلحة المسلمين العامة إلا به لنازلة نزلت بالمسلمين.
وأن ما توفر الداعي وانتفى المانع لفعله تعبدًا، ومع ذلك تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُتصوَّر أن يكون مشروعًا بعده -صلى الله عليه وسلم-؛ فمَن استبصر بهذه المعاني تبيَّن له زيف دعاوى مشروعية كثير من البدع: كالاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والذكر الجماعي والاحتفال بأول جمعة من شهر رجب، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وبدع القبور والأضرحة.
ثم إنه لم يثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا عن الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة المذاهب المتبوعين، مثل: الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة، وأصحابهم، تعظيم مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا التجمع في يومه، ولا تخصيص يوم مولده -صلى الله عليه وسلم- بقراءة شمائله وسيرته، وقصائد مدحه؛ فضلًا عن الغلو والإطراء والرقص، ونحو ذلك من المنكرات التي قد تبلغ حد الشركيات، ولا التلميح أن مَن لم يحتفل بهذا اليوم غير معظم له أو ضعيف المحبة! بل قيل: إن أول مَن أحدث بدعة المولد هم الفاطميون في أهل مصر، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح، ويجعلونه عيدًا يعطلون فيه الأعمال والمتاجر، أرادوا أن يضاهوا فعلهم؛ فعظموا مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقابلوا بدعة ببدعة، تقليدًا ومضاهاة وتشبهًا بهم.
ورغم ذلك فإن من احتفل بهذا اليوم بحسن نية وسلامة مقصد؛ فهذا يُرفق به ويُوضح له ويعرف أن ذلك لم يكن من هديه -صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته، ولم يرد عنه إلا أنه كان يصوم الاثنين لا تخصيص يوم مولده كل عام بخصائص وقربات؛ فهذا أقصى ما بلغنا في الشرع عن مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صامه أسبوعيا، فمولده الشريف في ذلك اليوم كان سببًا من أسباب متعددة لصيام ذلك اليوم، وصوم النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم مولده أسبوعيا حجة على مَن اتخذ يوم المولد السنوي عيدًا؛ فإنه لم يزد على الصوم فيه، وعدل عن المناسبة السنوية إلى الأسبوعية.
ثم إن الأعياد القائمة على التعظيم أو الفرح والمحبة كانت معروفة في الناس قبل مبعثه -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك في حياته، ومع ذلك لم يتخذ من يوم مولده عيدًا؛ فهل غاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الطريقة للاحتفاء بمولده؟! وغاب عن صحابته وأئمة المسلمين ثم اكتشفه مَن ابتدعه ودل الناس عليه وعلم ما لم يعلمه الله ورسوله والسابقون الأولون؟! حاش وكلا! أليس الواجب علينا أن نكتفي بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته لا نزيد ولا ننقص؟!
وكذا نؤكد أنه مما لا يختلف عليه المسلمون: أنه لا يتمّ دينُ المرءِ إلا بإجلال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والانقيادِ له وحبِّه، وإنما الخلاف في بعض المظاهر التي يزعم فاعلها أنها من باب تعظيم الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وحبه، وأنها واجبة على الأمة .
وسنظل نذكِّر أنفسنا والناس -ولا سيما عند ظهور البدع-: بأن العبادات في دِينَ الإسلام تقوم على أصلين عظيمين: الأول: أن يكونَ العملُ خالِصًا لله -تعالى-. والثاني: موافقة الشرع بمتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالهدى كل الهدى في اتباع سنته -صلى الله عليه وسلم-، والتشبه بصحابته أعظم الناس حبًّا وإجلالًا واتباعًا له -عليه الصلاة والسلام-.
والحمد لله رب العالمين.