كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- تذكير بما سبق مِن أن الله أجرى على أنبيائه ورسله من الآيات والمعجزات القاطعة، ما يدل على صدقهم بما لا يدع عذراً لأحد في عدم الإيمان بهم وطاعتهم: قال -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) (الحديد:25)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ) (متفق عليه).
- الإشارة إلى بداية تناول المعجزات في المرحلة المدنية، والتي نبدأها بمعجزات دخوله المدينة -صلى الله عليه وسلم-.
(1) إخباره -صلى الله عليه وسلم- بتسخير الله -عز وجل- الناقة لاختيار منزله حيًّا وميتًا:
- الناقة المأمورة من الله تطوف بيوت أهل المدينة لتحدد منزل النبي -صلى الله عليه وسلم- حيًّا وميتًا، بل ومسجده، ليكون ذلك أرضى للنفوس من أن الاختيار جاء من الله بآية: بسط الإمام البيهقي -رحمه الله- ذلك في السيرة النبوية، فقال: "لما ركب -صلى الله عليه وسلم- وهو داخل إلى المدينة أرخى لناقته زمامها، وهي تنظر يمينًا ويسارًا، وكلما مرَّ على دار مِن دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم، يقولون: يا رسول الله، هلم إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيلها -يعنى ناقته- فإنها مأمورة"(1).
ولما مرَّ على بني سالم بن عوف سأله منهم عتبان بن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك، وعبادة بن الصامت، فقالوا: "يا رسول الله، أقم عندنا في العز والثروة والمنعة"، وفي رواية: انزل فينا، فإن فينا العدد والعدة والحلقة -أي السلاح-، ونحن أصحاب الحلائف والدرك؛ كان الرجل من العرب يدخل هذه المدرة خائفًا فيلجأ إلينا، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم- خيرًا، وقال: خلوا سبيلها -يعنى ناقته- فإنها مأمورة"، وهو -صلى الله عليه وسلم- متبسم ويقول: "بارك الله فيكم"، فانطلقت حتى وردت دار بني بياضة -أي محلتهم- فسأله بنو بياضة، ومنهم: زياد بن لبيد وفروة بن عمرو، وقالوا له: بمثل ما تقدم، فأجابهم بـ"إنها مأمورة خلوا سبيلها"، حتى وردت دار بني ساعدة، ومنهم سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبو دجانة، فسأله بنو ساعدة بمثل ذلك، فأجابهم: "خلوا سبيلها فإنها مأمورة"، فانطلقت حتى مرت بدار بني النجار، وهم أخواله -صلى الله عليه وسلم-، أي: أخوال جده عبد المطلب، فسأله بنو عدي بن النجار بمثل ما تقدم.
وفي رواية أنهم قالوا له: "نحن أخوالك، هلم إلى العدد والمنعة، والعزة مع القرابة، لا تجاوزنا لغيرنا يا رسول الله، ليس أحد من القوم أولي بك منا لقرابتنا، فأجابهم بمثل ما تقدَّم وبأنها مأمورة، فانطلقت حتى بركت بمحل من محالهم، وذلك في محل المسجد أو محل بابه أو منبره عند دار بني مالك بن النجار، وكان ذلك الموضع الذى بركت فيه مربدًا لسهل وسهيل ابني رافع بن عامر -والمربد هو: الموضع الذى يجفف فيه التمر-، ثم سارت وهو -صلى الله عليه وسلم- عليها حتى بركت على باب أبي أيوب -خالد بن زيد الأنصاري- وهو من بني مالك بن النجار، ثم سارت وبركت في مبركها الأول عند المسجد -قال الحافظ ابن حجر: أشارت إلى أنه منزله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا وميتًا-، وألقت جرانها بالأرض -أي باطن عنقها- وأرزمت -أي: صوتت من غير أن تفتح فاها-، فنزل عنها -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "هذا المنزل إن شاء الله" ، واحتمل أبو أيوب رحله بإذنه -صلى الله عليه وسلم- وأدخله بيته ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب جده -صلى الله عليه وسلم- فأكرمهم الله بنزوله عندهم، وفي رواية: "أنها استناخت به أولًا فجاء ناس فقالوا: المنزل يا رسول الله، فقال: دعوها، فانبعثت حتى بركت عند المنبر من المسجد ثم تجلجلت فنزل عنها، وقال: (وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ) (المؤمنون:29)، أربع مرات، وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي وسري عنه، فقال: "هذا إن شاء الله يكون المنزل" (دلائل النبوة للبيهقي).
وجه الإعجاز في ذلك:
- كون الناقة بهيمة لا تعقل، بل هي مسخَّرة للناس، فإذا هي التي تختار وتتخير من البيوت والبقاع ما هو أنسب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا وميتًا، وكل ذلك بتسخير الله -عز وجل- لها، إكرامًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولبيان دلائل نبوته.
(2) حلول البركات والخيرات على المدينة:
ويتمثَّل ذلك في صور كثيرة، ومنها:
1- ذهاب الوباء والحمى وتغير مناخ المدينة، فإنه لما هاجر المسلمون من مكة ونزلوا المدينة، أصابتهم حماها حتى تمنى كثير منهم أجواء مكة الصحية يومئذٍ، فدعى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذهاب الحمى عنها، فتحول الحال حتى صارت أحب البلاد إليهم، عن عائشة -رضي الله عنها-: لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- المدينة - وفي رواية: وهي أوبأ أرض- وُعِكَ أبو بَكْرٍ وبِلَالٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عليهمَا، فَقُلتُ: يا أبَتِ كيفَ تَجِدُكَ؟ ويَا بلَالُ كيفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وكانَ أبو بَكْرٍ إذَا أخَذَتْهُ الحُمَّى يقولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ والمَوْتُ أدْنَى مِن شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكانَ بلَالٌ إذَا أُقْلِعَ عنْه يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فيَقولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً بـوَادٍ وحَـوْلِي إذْخِـرٌ وجَـلـِيلُ
وَهـلْ أرِدَنْ يَـوْمًا مِيَـاهَ مِجَنَّةٍ وهلْ تَبْدُوَنْ لي شَامَةٌ وطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، وصَحِّحْهَا، وبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بالجُحْفَةِ) (متفق عليه)(2).
2- حلول البركة في الطعام مضاعفة لا سيما الكيل والميزان، وهو أمر مشهور محسوس إلى يوم الناس هذا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ، وَدَعَا لأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنَا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أَدْعُوكَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ مِثْلَىْ مَا بَارَكْتَ لأَهْلِ مَكَّةَ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
3- تقديس المدينة وتحريمها: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا) (رواه مسلم).
4- حفظ المدينة بالملائكة، لمنع الطاعون، ودخول الدجال في آخر الزمان: قال -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلاَ الدَّجَّالُ) (متفق عليه).
5- بركة الصلاة في مسجدها الأعظم واختصاصها بالروضة الشريفة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) (متفق عليه).
6- راحة نفوس المؤمنين إذا نزلوا المدينة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى المَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) (متفق عليه)(3).
7- فضل الموت فيها لأهل الإيمان: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وكان عمر -رضي الله عنه- يدعو: "اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه البخاري).
نسأل الله -تعالى- أن يشفع فينا نبيه -صلى الله عليه وسلم- في نيل الدرجات العالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال البيهقي تعليقًا: "وفي ذلك حكمة بالغة، وهي: أن يكون تخصيصه -صلى الله عليه وسلم- لمن خصه الله بنزوله عنده، آية ومعجزة تطيب بها النفوس، وتذهب معها المنافسة، ولا يحيك في صدر أحد منهم شيء".
(2) ووجه الإعجاز هنا: هو تحول الأجواء التي ظلت سنين عديدة، بل كانت سنة كونية للمدينة وطبيعة مكانية، كما هو معروف في كثير من بلاد الأرض، فوجه الإعجاز هو الخروج عن عادة وقوانين الأرض؛ إكرامًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهارًا لدلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم-.
(3) قال الحافظ ابن حجر: "أي: أنها تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به، فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها، كذلك الإيمان انتشر في المدينة، وكل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لمحبته في النبي -صلى الله عليه وسلم-".