كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
أولاً: الفرق بين الحكم والفتوى:
من القواعد الأصولية المستقرة أن الحكم الشرعي ثابت بينما تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وليس المقصود هنا ما يذهب إليه كثير من العالمانيين محاولة منهم لإثبات نسبية الشرعية فيزعمون أنه يمكن العدول مثلاً عن تطبيق الحدود إلى عقوبات أخرى يراها المعاصرون أكثر شفقة بدعوى أن هذا من تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وربما استدلوا بفعل عمر -رضي الله عنه- من عدم إقامة حد السرقة في عام المجاعة.
وهذا المثال ذاته يصلح لكي نوضح منه القضية، وهي أن الحكم الشرعي هو قطع يد السارق بشروط معينة، وأن القاضي مسئول عن تطبيق هذه الشروط لكي يصدر الحكم القضائي بقطع يد شخص بعينه إذا ثبتت عليه التهمة واكتملت شروط إقامة الحد، وأما إذا لم تثبت عليه التهمة فيقضي بالبراءة، وإذا ثبتت مع تخلف شرط من شروط إقامة الحد أو وجود مانع فيقضي بعقوبة تعزيرية.
وهذه الأحكام القضائية الثلاثة هي تطبيق لنفس الحكم الشرعي على وقائع مختلفة، ومثل ذلك المفتى الذي يطبق حكمًا شرعيًّا على واقع أمامه ليسمى ذلك فتوى.
استطراد:
قاعدة التفريق بين الحكم والفتوى قاعدة شريفة لها أهميتها البالغة، ومع هذا يسيء كثير من العالمانيين استعمالها -كما ذكرنا-، ولكن بعض الإسلاميين قد يقع في ذات الأمر، بل في أفدح منه!
ومن ذلك: ما قاله الدكتور "محمد يسري إبراهيم" الأمين لعام للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح في معسكر الهيئة بالإسماعيلية: حيث ذكر الإنكار على الرئيس إذا خالف الشرع ثم عاد فاستدرك على نفسه قائلاً: "إن هناك أمورًا ظاهرها المعصية ويكون باطنها الطاعة لما في علم الرئيس من أمور... !" ثم ضرب لذلك مثلاً بصلاة الرئيس في المساجد التي فيها قبور، وأن هذا الأمر جاء تطمينًا للصوفية بعد إذ ذعرتهم فتاوى سلفية بحرمة الصلاة في مساجدهم!
وفي الواقع لا أدري أيهما أكثر فسادًا: القاعدة التي قعدها والتي لم يقل مثلها لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ولم يطلب أحدٌ منهما من الناس إذا رأوا منه خللاً أن يستصحبوا أن ثمة أمورًا "يعلمها الخليفة ولا تعلمها الرعية"، بل قال كل منهما: "إذا أحسنت فأعينوني، وإذا أخطأت فقوموني" - أم المثال الذي ضربه والذي ليس فيه أمر سري لا يعلمه إلا الرئيس؟!
ولكن العلة التي قلبتْ الحرام -بل ذرائع الشرك!- حلالاً، بل مندوبًا إليه كما يبدو من كلامه "علة ظاهرة" كان ينبغي على الرئيس وعلى الدكتور "محمد يسري" مِن بعده أن يعرضاها على أهل العلم ليروا فيها رأيهم، وهل يصلح مثل ذلك حجة لإباحة مثل هذا الأمر الجلل أم لا يصلح؟!
وعلى فرض صدور فتوى من علماء معتبرين بهذا الأمر، فسيكون الأمر حينئذٍ من باب تغير الفتوى بتغير الأحوال وفي صورة يستوي العلم فيها بين الرئيس وغيره، وليست من باب أن الرئيس قد يفعل ما ظاهره الفساد عندنا وباطنه الصلاح عنده، وهو أمر لا يثبت عند أهل السنة إلا في قصة الخضر -عليه السلام-.
وقد كنتُ أعرضتُ عن التعليق على هذا المقطع حتى كرر الشيخ "محمد عبد المقصود" ذلك، وعلى محفل عام حينما نصح الرئيس في شأن دخول الشيعة مصر، ثم استدرك على نفسه بأن الرئيس يعلم ما لا نعلم مع أن "وزير السياحة" قد أعلن ذلك الذي لا يعلمه الدكتور "محمد عبد المقصود" وهو أن المتوقع من السياحة الإيرانية أرباح قيمتها ربع مليار دولارًا سنويًّا، وهو ما جعل الدكتور "أحمد فهمي" رئيس مجلس الشورى يقول: إنه لا يمكن أن يضحي بـ 19 مليار دولارًا هي قيمة تحويلات المصريين في الخليج لصالح ذلك الربع!
وعلى أية حال فهذا المسلك لا نعلم أن أحدًا من أهل العلم قد قرره لحاكم "حتى رسول الله" -صلى الله عليه وسلم- الذي ما زال الناس يراجعونه في بعض الأمور حتى يخبرهم أن الوحي قد جاء به كما في "صلح الحديبية".
وأعجب من ذلك قول أحد الكتاب الإسلاميين إن مشكلة الرئيس "مرسي" أنه لا يجد من يفتيه بأن الضرورات تبيح المحظورات بينما عنده من يعطيه هذه القاعدة ويعطيه معها تفويضًا بتطبيقها دون أن يتفضل علينا ببيان تلك الضرورة.
عود إلى القاعدة:
المهم هنا أن نبيِّن أن قاعدة: "الفرق بين الحكم والفتوى" ولئن كانت هامة في مجال الفتوى ومجال القضاء الشرعي فإنها في باب الحركة من الأهمية بمكان حيث يكون للمركب الواقعي في تلك المواقف -تقدير المصالح والمفاسد- دور كبير في اتخاذ المواقف، فإذا لم يكن ثمة وضوح تام في بيان الحكم الشرعي المجرد ثم بيان الواقع ثم تطبيق الحكم على الواقع، فقد ينشأ من هذا تباين في المواقف؛ نتيجة لاختلاف الظروف والملابسات.
وقد اهتمت "الدعوة السلفية" في هذا الباب اهتمامًا بالغًا أعطى لأبنائها ممن يحرص على تدارس هذه القضايا رسوخًا واطمئنانًا، وإن كان بعض المراقبين من التيار الإسلامي أو من خارجه لا يدرك هذه الأمور فتلتبس عليه، ويظن أن بعض مواقف الدعوة قد تتناقض!
وفي المقابل: قد يطلب منا البعض القبول بمخالفة الأحكام الشرعية الثابتة، ولو من باب المناورة السياسية!
ومن ذلك: لجوء البعض إلى خطاب التكفير كتكتيك تحقيق مصلحة معينة أو التلويح باستعمال العنف مع مجتمع مسلم ولو من باب التكتيك، ووجود ذلك الخطاب وصدوره من بعض الإسلاميين في بعض المحافل كفيل بمقاطعتنا لها.
ومن القواعد الهامة التي ينبغي أن تدرك: أن الكلام هو وسيلة التواصل وإيصال المعاني بين البشر، وقد يقول قائل كلامًا يفهم منه تكفير أناس معينين، ثم إذا محص الكلام بين طلبة العلم وجد أنه قد يحمل على غير هذا المعنى، وفي أزمنة الفتن يكون هذا الأمر غير مقبول بالمرة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) (متفق عليه).
فإذا تكلم داعية ما بكلام ثم وجدتَ معظم مَن سمعه يفهم منه أنه كفر طائفة ما من المجتمع؛ فهذا يوجب عليه ابتداءً ثم على المؤسسات التي ينتمي إليها والجهات التي نظمت المؤتمرات التي تكلم فيها - التبرؤ الواضح الصريح من مثل هذا الكلام حتى لا نجني على دعوتنا، ولا ندخلها إلى أنفاق البدعة التي تستوجب سخط الله -عز وجل- من جهة، ونضعها في مواجهة مع المجتمع من جهة أخرى.
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (رواه البخاري).
ونحب هنا أن نؤكد على معانٍ هامة توجد مبثوثة في غير هذا المقال إلا أن جمعها في سياق واحد قد يفيد في فهم موقف "الدعوة السلفية" من الأحداث السياسية قبل "ثورة يناير" وبعدها، وبصفة خاصة الأحداث الأخيرة المرتبطة بتظاهرات "30 يونيو".
وهذه المسائل هي:
أولاً: الفرق بين الحكم والفتوى، وقد فرغنا منها.
ثانيًا: تكييف نظم الحكم المعاصرة والعلاقة معها.
ثالثًا: الموقف من المشاركة في الحكم في ظل نظم الحكم المعاصرة.
رابعًا: موقع الوصول للحكم من منهج التغيير.
خامسًا: هل الغاية في الشرع تبرر الوسيلة؟!
سادسًا: الفرق بين المداهنة والمداراة.
سابعًا: الموقف من حرمة الدماء.
ثامنًا: مراعاة المصالح والمفاسد والمآلات فيما نقدم عليه من تصرفات، وخصوصًا في البابين:
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- الجهاد في سبيل الله.
تاسعًا: قاعدة: "معرفة الحق ورحمة الخلق"، ومن فروعها:
- التحذير من التكفير بغير مكفر؛ كالذنوب والمعاصي.
- العذر بالجهل والتأويل والخطأ.
- الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
عاشرًا: الانتماء إلى الجماعات الإسلامية بين الإفراط والتفريط.
ثانيًا: تكييف الحكومات المعاصرة:
قبل الثورة كانت الحركات الإسلامية تختلف في شأن الحكومات المعاصرة إلى أصناف، يمكن تلخيصهم فيما يأتي:
1- فريق يعارِض الحكومات المعاصرة من باب الانحرافات الجزئية دون الدخول في تفاصيل المشروعية، ومن أمثلتها: "جماعة الإخوان" التي بايعت "مبارك" في أول حكمه، ثم اتجهت إلى معارضته بعد انتشار الفساد في حكمه، وعندما طُرح التوريث أعلنتْ قبولها بشروط "إصلاحية"!
2- فريق آخر كان يكفِّر الحكام المعاصرين؛ نوعًا وعينًا، وهؤلاء كان منهم مَن يتورط في سحب هذا التكفير على كل المجتمع، مثل: جماعات التكفير، أو على الأقل يُخرِج عوام المسلمين من مسمى الإسلام وإن لم يدخلهم في الكفر، كجماعات: "التوقف" و"القطبيين".
3- فريق كان ينافح عن الحكام المعاصرين ويخلع عليهم صفات الإمامة، وبداية هذا الفريق كانت مع حكام السعودية خاصة حيث يتولى الحكام هناك باسم الشرع، وحيث تطبق الشريعة في النظام القضائي، ثم طردوا قاعدتهم حتى على غلاة الحكام، كالـ"قذافي" و"الأسد"! وهم الفريق المعروف إعلاميًّا بـ"المداخلة".
ومِن بيْن هؤلاء... قررت "الدعوة" هذه القواعد:
1- وظيفة رئاسة الدولة في الدساتير المعاصرة حتى التي فيها مرجعية الشريعة تختلف اختلافا كليًّا عن وظيفة الإمامة.
2- مَن لا يطبِّق الشريعة ويقضي بتحكيم غيرها مرتكب لكفر أكبر، وأن المعين منهم ممن يدعي إكراهًا أو تدرجًا أو... لا يكفر بعينه حتى تقام عليه الحجة.
3- الإنكار الشديد، بل والدخول في مواجهات فكرية شاملة مع من يكفر عوام المسلمين.
4- رفع قاعدة: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، وقاعدة: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري)، مع الجميع، ومنها: الحكومات المعاصرة فيما تتولاه من مصالح العباد الشرعية والمباحة.
ومِن الملاحظ: أن بعد الثورة "ونتيجة عدم وضوح التأصيل الذي أشرنا إليه" حدث تبادل للمواقع بين بعض المداخلة وبعض مَن كانوا يكفرون الحكام لمجرد وصول رئيس الإسلامي إلى الرئاسة!
ولا ندري على أي أساس اختلف الحكم جذريًّا عند كل منهم؟!
وكيف يمكن لشخص مثل "أسامة القوصي" أن يوالي "مبارك" ويعتبره ولي أمر، بينما يعادي الدكتور "مرسي" ويعتبره أنه ممثل لجماعة مبتدعة؟!
وكيف لخطباء أجلاء كم نقلوا لنا وقائع لنصح "الحسن البصري"، و"سعيد بن جبير"، و"العز بن عبد السلام"، وغيرهم لملوك وخلفاء حكموا بالشريعة وجاهدوا في سبيل الله، ومع هذا قرَّعهم العلماء على أخطاء ارتكبوها ومظالم فعلها أعوانهم - كيف لهؤلاء أن يكونوا اليوم ممن ينادي بالسكوت على أخطاء الرئيس لمجرد كونه إسلاميًّا؟! "أي على الأقل أن نوجِّه له النصيحة مشفوعة بحقه الكامل في القبول أو الرد".
ومن ذلك: أن أحد الرموز المؤيدة لهذا القول قد استدل بقصة مفادها أنه في استقبال الدكتور "مرسي" للعلماء والدعاة أثقل عليه بعضهم في شأن عدم اختيار نائب قبطي، وأنهم لما أكثروا عليه انبرى لهم الدكتور "محمد يسري إبراهيم" قائلاً: "جئتم ناصحين أم آمرين؟!"، فقالوا: "جئنا ناصحين"، فقال: "فقد أديتم النصيحة!".
وهي حجة جدلية استعمل فيها الجدل الممزوج بسيف الحياء! والإجابة لمن لم يرفع عليه ذلك السيف: أنهم جاءوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر كما أمرهم الله، وأن هذا هو دورهم مع الحاكم؛ لا سيما إذا كان الحاكم لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق، ولا المقيد، ولا عُلم عن بطانته الاشتغال بالعلم!
وأما نحن: "فنتيجة وضوح التنظير" لم تأخذنا عاطفة الرئيس الإسلامي الحافظ للقرآن، فقلنا: إنه تولى بنفس صلاحياته الدستورية، وإن كان هو كشخص يريد توظيفها لخدمة الإسلام مما يقتضي وفق قواعد التعاون على البر والتقوى أن نسانده ونكون عونًا له جملة وتفصيلاً ما لم يكن في الأمر مخالفة شريعة.
ومن جملة المخالفات الشرعية: "تخطيه صلاحياته الدستورية"؛ لمخالفة ذلك لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1).
ومن التناقضات التي تموج بها الساحة الآن: دفاع بعضهم عن الرئيس بأنه رئيس منتخب لمدة أربعة سنوات "وهذا يعني استنادهم إلى الدستور"، ثم تحريم المظاهرات عليه "مع أن ذات الدستور يبيحها"!
وقد يستشكل البعض موقفنا من إقرارنا بحق المتظاهرين بالتظاهر في حين أننا نهينا أتباعنا من قبل عن الدخول في مظاهرات قبل تبيُّن إلى أي طريق سوف تؤدي!
فنقول: ليس هناك تعارض بين الأمرين؛ لأننا أيضًا فيما يتعلق بمظاهرات "30-6" نهينا أتباعنا عن نزولها؛ لكونها في الأعم الأغلب لن تؤدي إلى حال أفضل من التي نحن فيها، ولكننا لا يمكن أن نصدر فتوى شرعية تخاطب المخالفين بذلك؛ لكون هذا التفافًا على العقد الذي بين جميع طوائف المجتمع، ومثل هذه الفتاوى ترسخ لتهمة أن الإسلاميين يوظفون الدين لأهدافهم السياسية؛ ناهيك عن أنه في الغالب لا يستجيب لها أحد من هؤلاء المخالفين.
ثالثًا: الموقف من المشاركة في الحكم في ظل نظم الحكم المعاصرة:
تبنتْ الدعوة موقفًا بعدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية في ظل الدساتير المعاصرة، ومِن ثَمَّ عدم المشاركة في الحكومة من باب أولى، وقد تغير هذا الموقف بعد "ثورة يناير"، وقد ظن البعض أن هذا الموقف يتضمن تغيرًا في الاجتهاد الفقهي للدعوة كمسألة حكمية، وهذا لإهمال قراءة الأسس التي تبني عليها الدعوة مواقفها، وقد لخصتْ الدعوة خلاصة اجتهادها في المسألة في أدبياتها منذ أواسط الثمانينيات، وكانت خلاصة المسألة أن المشاركة السياسية مشروعة بشرطين:
الأول: ألا تتضمن إقرارًا بباطل.
الثاني: أن يغلب على الظن رجحان مصلحة المشاركة على عدمها.
وعند فقدان الشرط الأول تعتبر المشاركة محرمة بينما توجد مساحة من الاختلاف السائغ في تقدير المصالح والمفاسد، وبتطبيق هذه الأحكام على الواقع المصري قبل "ثورة يناير" انتهت الدعوة إلى عدم المشاركة، وبتطبيقها بعد "ثورة يناير" انتهت إلى المشاركة.
رابعًا: موقع الوصول للحكم من منهج التغيير:
من الثابت في أدبيات الدعوة أن المشاركة في الحكم حتى حال القول بمشروعيتها ليس هو طريق التغيير، وإنما طريق التغيير هو قول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، وهذا يعني أن إقامة المجتمع الإسلامي الذي يطبق الإسلام في كل جزئياته لن يأتي إلا بالتصفية والتربية والدعوة إلى الله، وفي ذات الوقت فإن الدعوة إلى الله تكون أيسر كلما كان نظام الحكم أقرب إلى النموذج الإسلامي، وقد طالب النبي -صلى الله عليه وسلم- مشركي قريش أن يتركوه يبلغ رسالة ربه إذ لم يؤمنوا بها، وهي مطالبة بتحسين نسبي في نظام الدولة، وفي ظل هذا تأتي المشاركة البرلمانية، وحتى عند الحصول على الأغلبية فقيود اعتياد الناس على بعض المعاصي فضلاً عن غيرها من القيود سوف تجبرك وأنت في موقع الحكم أن تنتظر جهود الدعوة والتربية "مما يعني أن جهود الدعوة والتربية هي الأساس".
وهذه النظرة تختلف عن نظرة بعض القوى الإسلامية التي ترى أن القفز على السلطة هو طريق التمكين لا غير، وبعد ما نتمكن من السلطة نشرع في تربية الناس على معاني الخير من موطن القوة.
وقد سبق أن لخصتُ هذه الحالة في مقالة "الدعوة بين: المجتمع الخاص - المجتمع العام - الدولة"، فقلتُ: "إن حركات الإصلاح لا يمكن لها أن تعيش وأن تؤتي ثمارها إلا إذا كانت محاضنها التربوية لا تمثل حاجزًا، ولكن ماذا عن الحركات الإسلامية المعاصرة؟
بلا شك إن الحركات الإسلامية المعاصرة كانت في حاجة إلى التحرك في محاضنها التربوية الخاصة لإعداد كوادرها لمواجهة الكثير من صور التغريب والانحراف إلا أن الملاحظ أنه كلما كانت هذه المحاضن أقرب إلى العمومية ساهمت في وجود روح متصالحة مع المجتمع العام، ومِن ثَمَّ حرصت الدعوة السلفية -بفضل الله- على جعل المسجد هو محضنها التربوي الأصلي دون غيره من الصور التي اعتمدتها حركات أخرى.
وفي المقابل: فإن هناك تيارات اكتسبت حالة عدائية شديدة تجاه المجتمع وانزوت في مجتمعات صغيرة سرعان ما اعتبرتها أنها هي جماعة المسلمين كما حدث في جماعة التكفير والهجرة.
وثمة جماعات أخرى لم تصرح بكفر المجتمع، وإنما نظرت إليه نظرة دونية وطبقت مفهوم استعلاء الإيمان الذي دعا إليه بعض المفكرين إلى استعلائهم هم على العصاة "أو إن شئت قل: على مَن سواهم"؛ مما أورث هؤلاء سلوكًا تكفيريًّا وإن كانوا يتفاوتون في طريقة تنظيرهم لهذا السلوك.
وثمة اتجاهات أخرى تعاملت مع المجتمع الكبير، ولكن لم تتعامل معه من نفس الباب الذي تعامل منه شيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً، وإنما أوتوا من قِبَل استغراقهم في مفهوم أن الإسلام دين ودولة أكثر من استغراقهم في صورة المجتمع المسلم الكبير، ومِن ثَمَّ تجد أن هؤلاء تتركز أنظارهم في دائرتين: "دائرة المجتمع الصغير، ودائرة الدولة" بينما لا يمثل المجتمع الكبير في عرفهم إلا طريقًا واصلاً بين الدائرتين.
وأما النظرة الصحيحة فهي: أن تعتبر أن دائرة المجتمع الكبير هي دائرة كبيرة تضم في داخلها عددًا من الدوائر الصغيرة تمثِّل الرؤى والاتجاهات والمحاضن التربوية الصغيرة، وأن الدولة ما هي إلا قبعة على رأس هذا المجتمع.
إن الفرق بين الطرحين كبير، ولعله إذا اتفق الجميع على تلك النظرة؛ أن المجتمع الكبير يضم تحته كل المجتمعات الصغيرة وتعلوه دولة عادلة هي الأخرى راعية لكل مَن هو داخل الدائرة الكبرى بغض النظر عن الدائرة الصغرى التي خرج منها أفراد تلك الدولة، فهل نطمع أن يسعى الجميع إلى الانتقال ولو تدريجيًّا إلى هذا النموذج؟".
وأزيد هنا فأطرح هذا السؤال: ما الموقف إذا تعارض الوصول للحكم أو البقاء فيه مع الدعوة؟
الإجابة ستجدها في سلوك بعض الدعاة مع متظاهري "30-6" حيث قام بالآتي:
1- تبني خطاب يفهم منه التكفير مع ما في التكفير من تنفير للعامة والخاصة، ومع أن الدعوة الإسلامية في بداية السبعينات قد عانت سنوات طوال حتى استطاعت أن تغسل عنها عار جماعة "شكري مصطفى"، والذي لم يوقعه في فتنة التكفير إلا شدة التعلق بالوصول إلى الحكم فلما انقلب "عبد الناصر" على الإخوان لم يتحمل "شكري مصطفى" ومَن معه تلك الصدمة وكفروه، بل كفروا المجتمع كله! مما دفع جماعة الإخوان إلى التبرؤ منه.
2- تبني خطاب فيه تلويح بالعنف، بل تشجيع جماعات تخلت عن العنف -أو بعض أفرادها على الأقل- على تبني خطاب العنف ثانية! بل والزعم أنه ما كان ثَم مراجعات مما يهدم الثقة بمن يقول ذلك.
3- محاولة وصف جميع المعارضين لحكم الإسلاميين وإن ذكروا مظالم حياتية بأنهم شيوعيون أو ملحدون أو ما شابه ذلك... بما فيه من مخالفة للقاعدة الشرعية في محاولة استخراج ما عند الناس من خير (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) (هود:84)، ومع أن المنافقين حقًا الذين خرجوا على عثمان -رضي الله عنه- مع ضعف موقفهم وتهافت مطالبهم إلا أنه -رضي الله عنه- سمع منهم ورد عليهم في جميع ما ادعوه عليه.
ورغم أن جميع هذه المسالك يمكن أن تؤخر الدعوة لسنوات، بل لعقود؛ إلا أن الاستغراق في أهمية الحكم وجعله هو بداية التغيير قد يدفع البعض إلى استعمال هذه الوسائل للحفاظ على الحكم! وهذا ما يجعلنا نؤكد على موقفنا من شرعية الوسائل.
خامسًا: هل الغاية في الشرع تبرر الوسيلة؟!
سبق أن تعرضنا لهذه المسألة في مقال: "مناقشات في الدعوة والسياسة"، فقلتُ: "مِن أشنع الأخطاء التي يقع فيها البعض، والتي يترتب عليها الكثير من المآسي في مسيرة العمل الإسلامي اعتماد قاعدة أن: الغاية تبرر الوسيلة!
ويتم التوصل إلى هذه النتيجة عبر مقدمتين كلاهما خاطئة:
الأولى: توهُّم صاحب هذه القاعدة أنه في حالة حرب!
الثانية: سوء تفسير قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الحَرْبُ خَدْعَةٌ) (متفق عليه).
وينبني على هاتين المقدمتين أن يعيش صاحبها في حالة خداع دائم مع نفسه ومع الغير!
والواقع أن المقدمة الأولى تحتاج من صاحبها إلى أن يعرف أن: حتى الكفار منهم المعاهد والمستأمن والذمي، ولا يطبق على أي منهم قواعد الحرب، بل تطبق قواعد السلم والموادعة؛ فكيف بمن يتصور لوجود مناوأة لدعوته أن حياته كلها حرب؟!
وأما المقدمة الثانية: فالواقع أن هذا الحديث لابد وأن يُفهم في ضوء النصوص الأخرى، وقد نبَّه شراح الحديث على ذلك.
ومنهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله- حيث قال في (الفتح): "قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَاز خِدَاع الْكُفَّار فِي الْحَرْب كَيْفَمَا أَمْكَنَ, إِلا أَنْ يَكُون فِيهِ نَقْضُ عَهْد أَو أَمَانٍ فَلا يَجُوز. قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: الْخِدَاع فِي الْحَرْب يَقَع بِالتَّعْرِيضِ وَبِالْكَمِينِ وَنَحْو ذَلِكَ".
وبهذا النقل -وبمراجعة ما تحته خط- يتبين: أن هذا الحديث ليس بالإطلاق الذي يفهمه بعضهم، وأن حتى الحرب في الإسلام تحكمها أخلاق عظيمة! ومِن عجب أن كثيرًا ممن يستدل بهذا الحديث في غير موضعه هو ممن يكثر من ذكر وفاء المسلمين بعهودهم حتى في الحرب! ولعلنا نعود إلى هذا الأمر بشيء من البسط لاحقًا -إن شاء الله-".
سادسًا: الفرق بيْن المداهنة والمداراة:
سبق أن تعرضنا لهذه المسألة في مقال: "مناقشات في الدعوة والسياسة"، فقلتُ تحت عنوان: "حزب أيديولوجي بأداء توافقي": "يستغرب الكثيرون عندما يجدون "حزب النور" يقدم حلولاً توافقية في ذات الوقت الذي يتمسك فيه بثوابته، وسبب دهشة هؤلاء أنهم لا يعرفون إلا الأنماط التي أوجدتها الحياة السياسية الغربية.
وفي الواقع: إن الإسلام الذي يأمر بالتمسك بالعقيدة هو في ذات الوقت الذي يأمر بمراعاة المصالح والمفاسد، والتماس الوسائل المؤدية لهذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ولعل واقعة بناء الكعبة وما اقترحه النبي -صلى الله عليه وسلم- لحل النزاع بين القبائل، وقد كان ذلك قبل البعثة وتأكد بعدها في عدد من المواقف من أبرز ما يدل على ذلك، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) (رواه البخاري)، ثم "أبدى مرونة في التفاوض معهم ما زالت مضرب المثل في فن التفاوض!"، بل يبلغ الأمر أن يؤجل تطبيق ما يمكن أن يؤدي إلى فتنة "مع بيانه وتوضيحه"، كما في تأجيله -صلى الله عليه وسلم- لإعادة بناء الكعبة.
وقريب من هذا المعنى: التفريق بين المداهنة المحرمة المنهي عنها في قوله -تعالى-: (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) (الإسراء:74)، وفي قوله -عز وجل-: (وَدُّوا لَوتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9)، وبين المداراة التي استعملها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مَن وصفه بأنه بئس أخو العشيرة.
والفرق بيْن الأمرين:
أن المداهنة المحرمة هي: أن تتنازل عن شيء من "الدين" بلا "إكراه معتبر ولا مفسدة متحققة" من أجل مصلحة غالبًا ما تكون في "الدنيا".
وأما المداراة المباحة -والتي قد تجب بحسب الأحوال- فهي: أن تتنازل عن شيء من "الدنيا" من أجل مصلحة من "الدين" أو"الدنيا".
وإذا كان مسلك مَن يتمسك في جميع مواقفه مرفوضًا ومسلك مَن يلين في جميع مواقفه مرفوضًا أيضًا؛ فإن مما يجب أن يُرفض "بدرجة أشد" أن يبدي "البعض" مرونة حيث يجب إبداء الصلابة، ويبدي الصلابة حيث يسع الكثير من المرونة!"
سابعًا: الموقف من حرمة الدماء:
هذه القضية من ثوابت "الدعوة السلفية"، وقد كتب الشيخ "ياسر برهامي" بمناسبة أحداث "30-6" بعنوان: "إياكم وسفك الدماء"، وهي المقالة التي علق عليها بعض الإسلاميين بطريقة أقل ما يقال فيها: "إنها غير علمية"؛ رغم أن للشيخ مقالة أوفى بنفس المضمون بعنوان: "احقنوا الدماء" كتبها تعليقًا على أحداث العباسية، وكان كثير ممن انتقد المقالة الأخيرة قد قَبِل بالأولى، وذلك أن حرمة الدماء عند البعض لا تمثِّل مبدأ ثابتًا بقدر ما تقبل بالموازنات السياسية!
وإليك نص مقالة "احقنوا الدماء":
"مشهد ميدان العباسية في غاية الألم، كم كنا نُحذِّر مِن هذه السلوكيات والأفكار التي يريد البعض مِن خلال نشرها الوصول للفوضى والدمار، غير عابئ بما يُسفك من دماء وما ينتهك من حرمات ونحن في هذه المحنة العصيبة التي ندعو الله أن يُخرج مصرنا الحبيبة وشعبنا الطيب منها بسلام.
ونذكِّر الجميع بما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيمًا) (النساء:93).
ونحذر مِن تأويل الجاهل أو تحريف المضل يقنع المرء به نفسه أو غيره بأن ما يفعله ليس قتلاً لمسلم بغير بحق، بل هو نصرة للحق أو دفعًا لظلم أو دفاعًا عن النفس، بل ربما كان هو المبطل والظالم والمعتدي، ونحذر مِن الوقوع في الهرج الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ!). فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟! قَالَ: (الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
ولا تكفي النيات الحسنة في دفع الإثم عمن شارك في قتل مسلم، ولا اتباع الظنون التي لا بينة عليها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (يونس:36).
ونذكِّر الجميع بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري). وبقوله: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ) (متفق عليه). وبقوله: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلامٍ، أَوزِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَو قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
ولنحذر من دعاوى التكفير الجاهلة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذا قالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَهو كَقَتْلِهِ، وَلَعْنُ المُؤمِنِ كَقَتْلِهِ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني). وقال -صلى
: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) (متفق عليه).
وليعلم كل مشارك في الفتن أن توبة القاتل للمسلم عمدًا غير مقبولة عند ابن عباس وغيره، والصحيح أنها لا تسقط كل الإثم؛ لأنه يبقى حق المقتول، يأتي يوم القيامة وأوداجه تَشْخَبُ دمًا، يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني، حتى لو أخذ أولياء المقتول حقهم بالقصاص أو بالدية أو بالعفو، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ... ) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ). وَالهَرْجُ: القَتْلُ. (متفق عليه). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا) (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) (متفق عليه).
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر مَن مر بسهام في المسجد أو السوق أن يمسك بنصالها خشية أن تصيب مسلمًا، ونهى عن الإشارة للأخ بسلاح -ولو مازحًا- لا ينزع الشيطان في يده فيقع في حفرة من النار، فقال: (لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه)؛ فكيف بمن وجَّه سلاحه إلى صدور المسلمين ورؤوسهم لا يعبأ بحرمتهم، مستهينًا بدمائهم وأرواحهم؟!
وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أبو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي عَلِيًّا. قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا أَحْنَفُ ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ). قَالَ فَقُلْتُ: أَو قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ) (متفق عليه).
مع أن عليًّا -رضي الله عنه- كان أمير المؤمنين، الخليفة الراشد الذي بَغى عليه مَن خالفه؛ فكيف بالفتن التي تلتبس فيها الأمور، وإنما تُبنى فيها القرارات على أساس الظنون والتحليلات المزعومة بلا بينات حقيقية؟!
فليبذل كل واحد منا غاية جهده في صرف الناس عن سفك الدماء المعصومة بغير حق، ولنسعَ جميعًا إلى إزالة الاحتقان، ودعوة الجميع إلى الحكمة والتأني والنظر في عواقب الأمور والمآلات، عسى الله -عز وجل- أن يحفظ بلادنا آمنة مطمئنة، وسائر بلاد المسلمين".
وأكتفي بهذا القدر مكتفيًا باشتهار موقف الدعوة فيما تبقى من قضايا، وهي:
ثامنًا: مراعاة المصالح والمفاسد والمآلات فيما نقدم عليه من تصرفات، وخصوصًا في بابي:
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- الجهاد في سبيل الله.
تاسعًا: "قاعدة معرفة الحق ورحمة الخلق"، ومن فروعها:
- التحذير من التكفير بغير مكفر، كالذنوب والمعاصي.
- العذر بالجهل والتأويل والخطأ.
- الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
عاشرًا: الانتماء إلى الجماعات الإسلامية بين الإفراط والتفريط.
وأؤكد على أن استحضارها هنا من الأهمية بمكان، ومتى استحضرت تلك القضايا العشر، وراجعت منهج الدعوة فيها ودرست موقف الدعوة من الأحداث المختلفة مع علم بتفاصيل تلك الأحداث؛ فسوف تجد أن الدعوة تنطلق من منهج ثابت مقرر "لا نزعم عصمته كنظرية فضلاً عن التطبيق"، ولكننا اجتهدنا في تنقيح أصوله، وفي تحقيق قواعده في الوقائع المختلفة.
نسأل الله أن ندور دائمًا بين الأجر والأجرين، وأن يلهمنا الرشد والصواب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.