كتبه/ أحمد يحيى الشيخ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
يرد تساؤل على ألسنة كثيرين: هل العقد الاجتماعي الذي تولى الرئيس بمقتضاه رئيسًا للبلاد، ملتزمًا بما فيه من شروط ومؤديًا لما فيه من صلاحيات؛ هل هو صورة التغلب التي تكلم العلماء عنها قديمًا فيمن تغلب وفرض طاعته بالقهر والاستيلاء؟ وللجواب عن ذلك نبيِّن ما هو التغلب الذي قصد منه العلماء ثبوت الإمامة الشرعية.
فنقول: مقصود الإمامة الشرعية لا يتغير مهما تغيرت طرق تنصيب الإمام، فالإمامة تثبت بالاختيار والاستخلاف والتغلب، لكن مقصود الإمامة الذي هو الغاية من وجود الإمام نص عليه العلماء نصوصًا واضحة تثبت أن المقصود ليس شخص الإمام، وإنما ما يُناط به من أحكام ولذلك ذكروا أن "الإمامة خلافة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" (هذا لفظ الماوردي في الأحكام السلطانية ص5، وابن خلدون في مقدمته ص170).
وذكر الجويني ألفاظًا قريبة من ذلك، لكنها أعم وأشمل فقال: "الإمامة رياسة تامة، وزِعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، مهمتُها حفظ الحَوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكفُّ الحنف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحِقين" (الغياثي: ص22).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فالمقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم" (مجموع الفتاوى:28/ 262).
وعلى ذلك فقد ذكروا أن المقصود من وجود الإمام هو إقامة الدين سواء جاء بالاختيار أو الاستخلاف أو التغلب، لا يختلف الأمر باختلاف طرق التنصيب.
وقد نص ابن حجر نقلاً عن الطيبي في شرح حديث: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه): "أن الراعي ليس مطلوبًا لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك؛ فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه" (فتح الباري:13/ 13).
وقال النووي -رحمه الله-: "لابد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة وينتصف للمظلومين ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها" (روضة الطالبين:10/ 43).
وقال الشوكاني -رحمه الله-: "والحاصل أن الغرض المقصود للشارع من تنصيب الأئمة هو أمران: أولهما: وأهمهما إقامة منار الدين وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه طوعًا وكرهًا، وثانيهما: تدبير المسلمين في جلب مصالحهم ودفع المفاسد عنهم... " (السيل الجرار:3/ 332).
ولذلك فالتغلب مقيد بهذا المقصود وإلا لم يكن لوجود الإمام معنى إلا وجود صورته دون الغاية التي أمر الشرع بالقيام بها، وممن نص على ذلك الماوردي بقوله: "وأما إمارة الاستيلاء التي تُعقد عن اضطرار؛ فهي أن يستولي الأمير بالقوة على بلاد يُقَلِّدُه الخليفةُ إمارتَها، ويفوض إليه تدبيرها وسياستها، فيكون الأمير باستيلائه مستبدًّا بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذًا لأحكام الدين؛ ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة، وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه؛ ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يُترك مختلاًً مخذولاً، ولا فاسدًا معلولاً... ".
وذكر الماوردي ما يجب على المستولي ثم قال: "فهذه سبع قواعد في قوانين الشرع يحفظ بها حقوق الإمامة وأحكام الأمة، فلأجلها وجب تقليد المستولي" (اهـ من الأحكام السلطانية ص39).
وهذا القيد نص عليه الجويني في أكثر من موضع في الغياثي، وقال في كلامه عن المتغلب: فلا وجه لتعطيل الزمان عن والٍ يَذُبُّ عن بيضة الإسلام، ويحمي الحَوزة.
وقال: فإن تأخير ما يتعلق بالأمر الكلي في حفظ خطة الإسلام تحريمه واضح بيِّن.
وقال: يجب على الناس اتباعُه لتعينه لهذا المنصب، ومسيس الحاجة إلى وَزَرٍ قوّام يرمق في أمر الدين والدنيا.
وقال: فيجب العقد له؛ لما فيه من تقرير غرض الإمامة وإقامة حقوقها، وتسكين الفتنة الثائرة وتطفية النائرة.
وقال في المتغلب كذلك: فالمعنى الذي يلزم الخلق طاعة الإمام، ويلزم الإمام القيام بمصالح الإسلام، أنه يسر مسلك في إمضاء الأحكام، وقطع النزاع والإلزام، وهو بعينه يتحقق عند وجود مقتدر على القيام بمهمات الأنام.
وهذا كله ذكره في الغياثي في فصل: القول في ظهور مستَعْدٍ بالشوكة مستولٍ ص316 وما بعدها.
الخلاصة أن: التغلب الذي تثبت به الإمامة الشرعية هو ما ترتب عليه القيام بمقاصد الإمامة من إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين، وأنه ليس المقصود وجود شخص ما، حتى وإن ضُيعت مقاصد الإمامة، فليست هذه هي الإمامة المأمور بها شرعًا.
ولذلك فاستحقاق الإمام لوصف الإمامة الشرعية وحق السمع والطاعة إنما هو مشروط بقيامه بمقاصد الإمامة، والأدلة في ذلك كثيرة منها ما رواه مسلم عن أم الحصين -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا) (رواه مسلم)، وفي رواية: (مَا أَقَامَ لَكُمْ كِتَابَ اللَّهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
وقال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: "فأمر -صلى الله عليه وسلم- بطاعة ولي الأمر ولو كان بهذه الخساسة ما دام يقودنا بكتاب الله –تعالى-، قال العلماء: معناه ما داموا متمسكين بالإسلام والدعاء إلى كتاب الله -تعالى- على أي حال كانوا في أنفسهم وأديانهم وأخلاقهم" (شرح صحيح مسلم:9/ 47).
وقد قال علي بن أَبي طالب -رضي الله عنه-: "حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا" (اهـ من تفسير البغوي:2/ 240)، وقال أيضًا: "لابد للناس من إِمارة؛ برة كانت أو فاجرة، قيل له: هذه البَرة عرفناها فما بال الفاجرة؟! قال: يُؤَمَّن بها السبُل، وتُقام بها الحدود، ويُجاهَد بها العدو، ويُقَسَّم بها الفيء" (منهاج السنة:1/ 374).
إذا عُلم ذلك فهناك فارق كبير بين عقد الإمامة في نظام الخلافة الإسلامي، وبين عقد الانتخاب في النظم الحديثة التي تكون فيها مقاصد الإمامة وما فيها من حفظ الدين وسياسة الدنيا به مختلفة عن مهمات الرئيس وصلاحياته، ومنوطة بهيئة أخرى لها سلطة مساوية لسلطة الرئيس، بل قد تكون أعلى سلطة منه من جهة أن لها حق الرقابة عليه ومحاسبته وسن القوانين التي يطالب بتنفيذها كرئيس للسلطة التنفيذية، وليس من صلاحياته أن يتدخل في عمل السلطة التشريعية.
وقد سبق أن حق السمع والطاعة للإمام متوجه في الأصل إلى هذه المهمة التي انتُزعت من صلاحيات الرئيس، وأوكلت إلى مؤسسة كاملة هي السلطة التشريعية التي هي أحد أركان الدولة الحديثة في النظم المعاصرة.
وهذا يبين أن عقد الإمامة يختلف عن عقد الرئاسة في مقصوده ومضمونه وما يترتب عليه من آثار وما يلزم فيه من لوازم.
والله من وراء القصد.