السؤال:
هل يستقيم القياس بمسألة النجاشي -رضي الله عنه- في تحكيم الشريعة، وقول شيخ الإسلام في ذلك مع مسألة حماس وعدم تطبيق الشريعة في غزة؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالنجاشي كان عاجزًا عن معرفة أحكام الشريعة؛ إذ ما علموا في الحبشة بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وظهوره إلا قرب خيبر؛ فكيف بتفاصيل الأحكام؟!
وكان في قوم عامتهم كفار يعجز أن يطبق فيهم أحكام الشرع، ولم يكن له شوكة من المسلمين يستطيع بهم أن يجعل البلد دار إسلام، فلا يكلف ما لا يقدر عليه علمًا وعملاً؛ فكيف يقال هذا عن حماس وغزة؟! هذا قياس فاسد.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وتحقيق الأمر أن يقال: انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك: إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة، أو اجتهاد سائغ، أو مع القدرة على ذلك علمًا وعملاً؛ فإن كان مع العجز علمُا أو عملاً كان ذو الملك معذورًا في ذلك، وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة؛ كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه.." "مجموع الفتاوى 35/25".
وقال -رحمه الله-: "بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب، وكذلك الكفار: من بلغه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دار الكفر وعلم أنه رسول الله، فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعًا من الهجرة وممنوعًا من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام؛ فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق -عليه السلام- مع أهل مصر؛ فإنهم كانوا كفارًا، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام؛ فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان، فلم يجيبوه، قال -تعالى- عن مؤمن آل فرعون: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) (غافر:34).
وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم؛ ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه، فصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة؛ خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفَّهم صفوفـًا، وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، وقال: (إِنَّ أَخًا لَكُمْ صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ مَاتَ) (متفق عليه)، وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك؛ فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤد الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه، فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم.
ونحن نعلم قطعًا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيِّه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم، وفي الديات بالعدل، والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع، النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك.
والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل وقيل: إنه سُم على ذلك.
فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها، ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب، قال الله -تعالى-: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:199)، وهذه الآية قد قال طائفة من السلف: إنها نزلت في النجاشي، ويروى هذا عن جابر وابن عباس وأنس، ومنهم من قال : فيه وفي أصحابه كما قال الحسن وقتادة، وهذا مراد الصحابة، ولكن هو المطاع، فإن لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد" "مجموع الفتاوى (19/217-219)".
ويلاحظ على كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- في أمر يوسف -عليه السلام- أن شريعة يعقوب وبنيه لم تكن عامة اللزوم لجميع الناس كشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يكن يلزمه ولايلزمهم إلا دعوة التوحيد.