كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
تمهيد عن الفتن:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) (رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا إِلاَّ بَلاَءٌ وَفِتْنَةٌ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، فالفتن واقعة لا مَحَالة كَوْنًا وقَدَرًا، وهي إذا وقعت طاشت العقول وماتت القلوب، ولا يثبتُ فيها إلا مَن عَصَمَه الله ووَفَّقَهُ للثبات؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ... إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ... إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ... وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ... فَوَاهًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقولُه (فواهًا): مَعْنَاهُ التَّلَهُّف وَالتَّحَسُّر؛ أَيْ: وَاهًا لِمَنْ بَاشَرَ الْفِتْنَة وَسَعَى فِيهَا.
ولاشك أن الثبات له عوامل وأسباب، إذا وَفَّقَ الله العبدَ للأخذ بها كان من السُعَداء:
ومن عوامل الثبات عند الفتن:
1- البصيرة:
هي قوة القلب المُدْرِكة، وهي للقلب كالبَصَر بالنسبة إلى العين؛ يُفرِّق المؤمن بها بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، والمصلحة والمفسدة، والدعوة إلى الله بغيرها تضر أكثر من أن تنفع، فعَدَمُها مَضَلة أقوام ومَزَلة أقدام؛ إذ الانحراف في مقام الدعوة والتغيير يمتد خطرُه أجيالاً، ويتحمل صاحبُه أوزارًا؛ لذا فتحصيل البصيرة فريضة على كل مسلم -وهي على الدعاة أوجب-؛ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)، والمؤمن في أزمنة الفتن أحوج إليها؛ فنورها يبدد ظلمات الفتنة؛ فقد شَبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- الفتنة بقطع الليل المُظلِم؛ أي: الذي لا قمر فيه ولا ضياء؛ فالساري فيه على شَفَا هَلَكة إن لم يكن معه نور يبصر به مواقع قَدَمه، وهو في حال الفتن نُورُ العِلم الذي يكشف أهلَها ويُبَيِّن حالَها؛ قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "لا تضرك الفتنة ما عَرَفتَ دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل".
وإليك أسبابٌ لتحصيل البصيرة -وهي عوامل كذلك للثبات في أزمنة الفتن-؛ فالزمها:
أ- صدق الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -تعالى-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122).
ب- العلم النافع بما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)، وقال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:28)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، والعلمُ بالله وأحكامِه يَعصِم "المؤمنَ" و"الطائفةَ المؤمنةَ" مِن الإفراط والتفريط؛ فلا يُفْرِطُ ويَغلو، فينتهك الحُرُمات ويقع في الفتنة ويهلك نفسَه وغيرَه، كما فعل الخوارج وغيرُهم مِمَّن أرادوا الخيرَ فلم يبلغوه! ولا يُفَرِّطُ فيقول الباطلَ ويسير في رَكْبه كما هو حال كثير مِمَّن يركبون فُلْكَ منافقي زماننا، ويسارعون في موالاة أهل الكفر وطلبِ مرضاتهم.
ج- العمل بالعلم: فمَن عَمِل بما عَلِم رزقه الله علمَ ما لم يَعلَم، ومن ثمراته التقوى؛ التي تقود إلى البصيرة والنور؛ قال الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة:282)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال:29).
د- صدق اتباع السنة ظاهرًا وباطنًا: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد:28)، وهذا يستلزم تقديمَها في الأصول والفروع على قول كل أحد وهَدْيِه.
قال ابن القيم -رحمه الله- في شأن الهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقلب: "سفر الفِكْر في كل مسألةٍ من مسائل الإيمان، ونازلةٍ من نوازل القلوب، وحادثةٍ من حوادث الأحكام إلى مَعْدِنِ الهُدَى، ومَنبَع النور المُتَلَقَّى مِن فَمِ الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:4)؛ فكل مسألة طلعتْ عليها شمسُ رسالته، وإلا فاقذِفْ بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عَدَّلَه هذا المُزَكِّي وإلا فعُدَّه من أهل الرَّيْب والتُّهمات".
هـ- التمسك بالقرآن والعناية به: قراءةً وفهمًا، وتدبرًا وحفظًا، وتعاهُدًا واستدلالاً وعملاً؛ فبحسب نصيبك من القرآن يكون نصيبك من النور؛ قال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النساء:174)، وقال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (التغابن:8)، وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157).
وكما سَمَّى الله -عَزَّ وجَلَّ- كتابه العزيز "نورًا"؛ فقد سَمَّاه "بصائرَ"؛ فقال: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (الأنعام:104)، وقال: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية:20)؛ فتأمَّلْ هذا تعلم العلاقةَ بين القرآن والبصيرةِ، وقد صَحَّ عن عبد الرحمن بن أَبْزَى قال: قلتُ لأُبَيِّ بن كَعْب لَمَّا وَقَع الناسُ في أمر عثمان: أبا المُنذِر، ما المَخرَج؟ قال: "كتابُ الله، ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فَكِلْه إلى عالِمه" (التاريخ الأوسط للبخاري 1/64).
وقال أبو مسعود لحذيفة -رضي الله عنه-: "إن الفتنة وقعتْ؛ فحدثني ما سَمِعتَه"، قال: "أَوَلَم يأتكم اليقينُ؟ كتابُ الله -عَزَّ وجَلَّ-" (حلية الأولياء 1/274).
و- كثرة العبادة: خاصَّةً الصلاة وإطالة السجود؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالصَّلاَةُ نُورٌ) (رواه مسلم)؛ فإذا اشتبهت عليك الأمور، ولم تَدْرِ كيف تسير؛ فافزع إلى الصلاة؛ فلقد "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى" (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
وقال الله -تعالى-: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق:19)؛ فكلما اقترب العبد من ربه؛ رأى الأمورَ على حقيقتها، وقَدَرَها حَقَّ قَدْرِها، ووَزَنَها بميزان الحق. وكلما أخلد إلى الأرض ولم يرتفع واتبع هواه؛ التبس عليه الحقُ بالباطل، وتَرَكَ الحقَّ.
ز- الصِّدق، والصَّبر -ومنه الصَّوْم-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) (رواه مسلم)، والصَّوم هو نِصف الصبر.
ح- غَضُّ البَصَر، وحِفظُ الفَرْج، وتَجَنُّبُ الاختلاط المُحَرَّم: فإن أثر هذا النوع من المعاصي -خصوصًا في عَمَى القلب- معلومٌ لدى أهل الإيمان؛ ألم ترَ كيف حان عذابُ قوم لوط وهم كما قال الله -تعالى-: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:72)؟!
وتأمَّلْ كيف جعل الله أحكامَ غَضِّ البصر وحفظ الفرج، وعقابَ الزِّنا، وآدابَ الاستئذان، والأمرَ بالحجاب وتركِ الاختلاط، والأمرَ بالزواج والعِفَّةِ، والنهيَ عن البِغَاء في سورة النور التي تتضمن آيةَ النور عقب هذه الأحكامِ العظيمة! لذا قال بعض السلف: "مَن غَضَّ بَصَرَهُ عن المَحارِم أطلقَ اللهُ نُورَ بَصِيرَتِه".
2- ومن عوامل الثبات: الصلة بالله -عَزَّ وجَلَّ-:
فكما أن صلة العبد بربه تُقَوِّي بصيرتَه؛ فكذلك هي من المُثَبِّتات في أزمنة الفتن؛ قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) (النساء:66)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) (رواه مسلم)، وقال: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) (رواه مسلم)؛ والهَرْج: الفتنة واختلاط أمور الناس.
ويروى أن الفتنة لما وقعت؛ قال طَلْقُ بن حَبِيب: "اتَّقوها بالتقوى".
وصاحب الأعمال الصالحة لا يُخزيه الله أبدًا؛ ففي حديث بدء الوحي قالت خديجة -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَلاَّ أَبْشِرْ! فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" (متفق عليه).
- في أعقاب معركة اليرموك وقف ملك الروم يُسائِل فُلُول جيشه المهزوم: ويلكم! أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بَشَرًا مثلكم؟! قالوا: بلى أيها المَلِك، قال: فأنتم أكثر أم هم؟! قالوا: بل نحن أكثر منهم في كل موطن، قال: فما بالكم إذن تنهزمون؟! فأجابه شَيْخٌ مِن عظمائهم: إنهم يهزموننا؛ لأنهم يقومون الليلَ، ويصومون النهارَ، ويوفون بالعَهْد، ويَتَنَاصَفون بينهم. (البداية والنهاية 7/15).
- ومن العبادات التي لها خصوصية في دفع الفتن ورفعها والثبات عند وقوعها:
أ- الصلاة: فلقد "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى" (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلاَّ نَائِمٌ! إِلاَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ، وَمَا كَانَ مِنَّا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ!" (رواه الإمام أحمد، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح).
ب- الدعاء والتَّضَرُّع: قال الله -تعالى-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال:9)، وقال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:42)، وقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60).
وهكذا كان فِعْلُ الأنبياء والصالحين على مَرِّ الزمان؛ قال -تعالى- عن نَبِيِّهِ نوح -عليه السلام-: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) (القمر:10)، وقال عن نَبِيِّهِ ذي النون -عليه السلام-: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) (الأنبياء:87)، ثم أخبرنا -عَزَّ وجَلَّ- بالطريق: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء:88).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).
- وكذلك التَّعَوُّذ من الفتن: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (رواه مسلم).
إِذَا اعْتَصَمَ الْمَخْلُوقُ مِنْ فِتَنِ الْهَوَى بِخَــالِقِهِ نَجَّـــاهُ مِنْهُـــنَّ خَــالِقُه
ج- الذِّكْر: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45)، وهذا أمرُ الله لنَبِيِّهِ موسى -عليه السلام- حيث لقاؤه بطاغوت عَصْرِه: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلاَ تَنِيا فِي ذِكْرِي اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (طه:42).
- يُنَبِّه الخطيب الناس إلى عدم الانشغال عن العمل الصالح بتتبع الأخبار و"القيلِ والقالِ"، و"سمعت ورأيت وأتوقع" وغير ذلك مما يولع به الناس في مواطن الفتن والنوازل.
ومتابعة أخبار المسلمين والانشغال بهمومهم على أهميته لا ينبغي أن يشغلنا عن السبب الرئيس من أسباب خروج الأُمَّة من أَزَمَاتها. كما يُنَبِّه إلى أن النَّفسَ في أوقات الفتن -خصوصًا- إن لم يبادِر المؤمن بإشغالها بالحق شَغَلتْه بالباطل ولابد.
3- ومن عوامل الثبات: الرجوع إلى أهل العلم، وعدمُ سؤال الجُهَّال:
قال الله -تعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل:43)، وقال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء:83)؛ وأولو الأمر: هم العُلَمَاء الربانيُّون والأُمَراء الذين يقودون الناس بكتاب الله.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا؛ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا!) (متفق عليه).
إن ذهاب العِلم مُقتَرِنٌ برَوَاج الفتن، وإن الالتحامَ بالعلماء عِصمةٌ للأُمَّة مِن الضَّلال؛ فالعلماء سفينةُ نوح؛ مَن تَخَلَّفَ عنها -لا سيما في زمان الفتن- كان مِن المُغرَقِين.
قال الحسن البَصْري: "الدنيا كلها ظُلمةٌ إلا مَجالسَ العلماء". وقال كذلك: "الفتنة إذا أَقبلتْ عَرَفها كلُّ عالِم، وإذا أَدبرتْ عَرَفها كلُّ جاهل"؛ لذلك فالصُدُور عن توجيهات أهل العلم مِن أهم سُبُل الوقاية من الفتن، والعِصمة من الزَّيْغ والضلال.
4- ومن عوامل الثبات: الصبر والاحتساب:
لا يمكن أن يخلو طريق المؤمن مِن بلاء ومحنة؛ قال الله -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)، وقال: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (الفرقان:20)، وقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:110)، وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- والصبر ثلاثة أنواع:
أ- الصبر على الطاعات.
ب- الصبر عن المعاصي.
ج- الصبر على أقدار الله المُؤْلِمَة.
- والصبر يتضمن ثلاثة أشياء:
أ- حبس القلب عن الجزع والتسخط.
ب- حبس اللسان عن الشكوى للناس.
ج- حبس الجوارح عن فعل المعاصي وانتهاك الحرمات.
من فوائد الصبر:
- ضبط النَّفس عن السَّأم والملل، لدى القيام بأعمال تتطلَّب الدَّأب والمثابرة خلال مدَّة مناسبة، قد يراها المستعجل مدَّة طويلة.
- ضبط النّفس عن العجلة والرُّعونة، لدى تحقيق مطلب من المطالب المادِّيَّة أو المعنويَّة.
- ضبط النّفس عن الغضب والطَّيش، لدى مثيرات عوامل الغضب في النَّفس، ومحرِّضات الإرادة للاندفاع بطيش لا حكمة فيه ولا اتِّزان في القول أو في العمل.
- ضبط النَّفس عن الخوف لدى مثيرات الخوف في النّفس.
- ضبط النَّفس عن الطَّمع لدى مثيرات الطَّمع فيها.
- ضبط النَّفس عن الاندفاع وراء أهوائها وشهواتها وغرائزها.
- ضبط النَّفس لتحمُّل المتاعب والمشقّات والآلام الجسديَّة والنّفسيَّة، كلما كان في هذا التَّحمُّل خير عاجل أو آجل.
- دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام.
- يورث هدايةً في القلب.
- يثمر محبَّة الله ومحبَّة النَّاس.
- سبب للتَّمكين في الأرض.
- الفوز بالجنَّة والنَّجاة من النَار.
- معيَّة اللّه للصَّابرين.
- الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة.
- مظهر من مظاهر الرُّجولة الحقَّة وعلامة على حسن الخاتمة.
- صلاة الله ورحمته وبركاته على الصَّابرين.
5- ومن عوامل الثبات مُقارَنةُ الحِلْمِ والرِّفق، ومُفَارقة العَجَلة والطَّيْش:
قال خَبَّاب بن الأَرَتِّ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا! أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا! قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ! وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ! وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).
"يرجع الخطيب إلى كتاب "بصائر في الفتن" للشيخ محمد إسماعيل المقدم -حفظه الله- إن أراد الزيادة من الأدلة".
6- ومن عوامل الثبات الإيمان بالقدر، والتفويض إلى الله، والتوكل:
قال الله -تعالى- عن مؤمن آل فرعون: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) (غافر:44)، ثم قال: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا) (غافر:45).
وقال –تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173)، وقال: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51).
وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) (رواه مسلم).
7- ومن عوامل الثبات التأسي بالأنبياء والرسل والصالحين:
قال -تعالى- (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام:90)، وعن مصعب بن سعد، عن أبيه، أنه قال: يا رسول الله، مَن أشد الناس بلاءً؟ قال: (الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
نسأل الله أن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.