طريقة أهل الكفر والعناد في معارضة الأنبياء وأتباعهم (4)
كتبه/ علاء الدين عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى- مرشدًا عباده المؤمنين: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) (آل عمران:186)، وفي هذا لا شك تثبيت للمؤمنين، وإمداد لهم بما يحتاجونه من وقاية عقدية وإيمانية ونفسية، كما وعدهم بالجزاء العظيم إن هم ثبتوا في مواجهة الإيذاء، فقال: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران:186).
وذلك الأذى الكثير ما زال المجرمون يحاولون به النيل من المؤمنين (وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212)، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ . وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) (المطففين:29-33).
وكما سخروا من الإيمان وأصحابه، سخروا أيضًا من شعائر الله الظاهرة: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (المائدة:58)، وربما سموها قشورًا وسفاهة، وشككوا في حكمتها واستصغروا شأنها، وحقًا قال ربنا: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (الممتحنة:2)، فلقد عادوا ولقد بسطوا ولقد ودوا، وهم (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ) (التوبة:10).
فحسبك الله يا سالك الطريق حينما تسمع منهم سبًا وتسفيهًا لدينك.. وحسبك الله حينما تسمع تشكيكًا في عقيدتك وتشويشًا.. وحسبك الله حينما تسمع انتقاصًا لك وللسائرين معك في الطريق الذي جمعك بهم، فإن سخروا فقل كما قال نوح -عليه السلام-: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ . فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) (هود:38-39)، وإن آذوك فقل كما قالت الأنبياء: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم:12)، واعلم أنك في النهاية منصور (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر:36).
هذا ومن صور الإيذاء.. المكر السيء للمؤمنين:
قال -تعالى-: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا . وَأَكِيدُ كَيْدًا . فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) (الطارق:15-17)، ما أشد مكرهم بالليل والنهار؛ إذ يحاولون ثني الأنبياء وأتباعهم المؤمنين عن دينهم بطرق ملتوية، وبأيد خفية؛ ظانين أنهم بذلك سينالون أهل الإيمان بكيد أو يصيبونهم بما يشفي غلهم نحو هؤلاء الأتقياء الطاهرين، فراحوا يدبرون لهم مرة من بعد مرة في كل زمان ومكان: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام:123).
فقد يكون هذا المكر منطويًا على خديعة أو وقيعة بين المؤمنين، وقد يكون مكرهم إرادة إيذاء للمؤمنين في أنفسهم وأهليهم وأحبابهم، وقد يكون صدًا عن سبيل الله وتشويهًا للدعوة والدعاة إلى الله، وقد يكون محاولة منهم في استخدام المؤمنين بما يخدم أهدافهم (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ . فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ) (الزخرف:49-50)، وكم هي كثيرة طرقهم الملتوية وحيلهم الشيطانية التي تتفتق عنها أذهانهم الخبيثة.. وكم فعلوا الأفاعيل، وكم صنعوا المكائد.. (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) (نوح:22).
وما من مرة ذكر الله -تعالى- في القرآن مكرًا مكروه أو كيدًا فعلوه إلا وأتبعه بذكر أنه -تعالى- سيبطله: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:81)، فكم مكروا وكادوا.. وكم دبروا وخططوا.. وكم بيتوا بليل: (اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) (فاطر:43).
وهذه هي سنة الله الكونية في خلقه: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43)، وكما حدث ذلك معهم حدث مع من قبلهم (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) (فاطر:44)، أم لم يتفكروا في أنفسهم وأسلافهم: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (آل عمران:54)، شانهم كشأن كل مَن مكر وكاد فكان جزاؤه من جنس عمله (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ) (الطور:42).
ها هو النبي صالح -عليه السلام- التقي النقي يكيده قومه: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ . قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ . وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ . فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ . فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (النمل:48-53).
وها هو إبراهيم -عليه السلام- أبو الأنبياء الموحد الحنيف يكيده قومه ويريدون إيذاءه: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ) (الصافات:98)، (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:70).
وها هو الرجل الصالح من قوم فرعون آمن ودعاهم إلى الله ونصر موسى -عليه السلام-؛ فأرادوا به مكرًا: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (غافر:45)، وكذلك ينجي الله المتقين، وكذلك ينصر الحق وأهله: (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) (محمد:3).
ما أضعف مكرهم حينما يظنون أنه قد بلغ بهم الدهاء مبلغه (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) (إبراهيم:46)، (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) (الأنفال:18)، وحال هؤلاء كحال من سبقهم حينما رد الله كيدهم في نحورهم (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (النحل:26)، ذلك في الدنيا (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ) (النحل:27)، وتالله إن لنا لعبرة بما ذكر الله لنا من بوار كيدهم الذي يراه كل عاقل بعينيه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال:36)، (وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر:10).
فإلى هؤلاء الكائدين وأصحاب المكر السيء يقول ربنا -تبارك وتعالى- وهو يعظهم زاجرًا: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ . أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ . أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (النحل:45-47).
وإلى كل المؤمنين الصادقين يقول ربنا -تبارك وتعالى- وهو يعظهم مؤمِّنا: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ . إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:127-128)، والله حسبنا وهو نعم الوكيل.
ومن ذلك أيضًا.. الملاحقة والسجن والتضييق:
كان دائمًا التضييق على الأنبياء وأتباعهم واستضعافهم أحد المفردات التي أكثر الكافرون استخدامها في كل عصر؛ فقد وصف الله بعض المؤمنين من الصحابة المستضعفين بقوله: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء:98)، وذكر حالهم ودعائهم متضرعين: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء:75).
وكان ضمن هؤلاء الضعفاء من عرفنا ومنهم من لم نعرف، بل ولم يعرفه الصحابة أنفسهم -رضي الله عنهم- إذ استخفوا بإيمانهم: (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الفتح:25)، ولقد كان ذلك ابتلاءً عظيمًا وفتنة ممحصة للمسلمين الأوائل: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:110)، ومن شدة البلاء أباح الله برحمته للمسلمين المستضعفين أن يتفوهوا بالكفر اضطرارًا إن هم أكرهوا على قوله بألسنتهم مع استقرار الإيمان فيه (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (النحل:106).
وذكَّر الله -تعالى- عباده المؤمنين بما امتن به عليهم من نعمة الأمن في مجتمع المدينة بعد أن كانوا لا يأمنون على أنفسهم وهم مستضعفون: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال:26).
الطرد والإبعاد:
وأما التهديد بالطرد من الأوطان والتشريد في البلدان فلا يكاد يخلو منه رسول مبعوث: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم:13-14).
وها هو شعيب -عليه السلام- يلاقي الأذى والتهديد والوعيد من قومه المتكبرين: (قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ . قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ . وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (الأعراف:88-90).
وها هو لوط -عليه السلام- يحكم عليه السفهاء المنتكسون بالإخراج والإبعاد لجناية "التطهر" والعفة: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56).
وموسى الكليم -عليه السلام- خرج وحيدًا فريدًا ليس معه إلا الله حينما جاءه الناصح قائلاً: (يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ . فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص:20-22).
وكذلك أتباع الأنبياء نالهم ما نال الأنبياء من طرد وإبعاد، فها هم الفتية المؤمنون يخرجون خوفًا من بطش قومهم: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف:10).
وها هم صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من نجا منهم من التضييق والحبس ناله الإبعاد والطرد بلا ذنب فعلوه أو جرم ارتكبوه: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج:40)، بل كانت جنايتهم أنهم يتعبدون لله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ) (الحشر:8)؛ لذلك نهى الله عن مودة ومحبة هؤلاء المعتدين الظالمين الممالئين لأعداء الله إذ أن حربهم إنما كانت على الدين ذاته (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9)، بل أمر بعد ذلك بمقاتلتهم ومجاهدتهم جهادًا كبيرًا؛ إذ الكفر أعظم من القتل: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ) (البقرة:191).
وحتى سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- لم يسلم منهم في ذلك، وهو الكريم الذي من حقه التقريب والإكرام وليس الطرد والإبعاد: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء:76)، فوجود الرسول خير وأمان لهم لو كانوا يعلمون: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الأنفال:33-34).
وهو أيضًا جمعت له -صلى الله عليه وسلم- محاولات القتل والاغتيال، وحيكت ضده مؤامرات الحبس والإخراج: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30).
ولكن الله أنجاه من مكرهم وأعلى دينه وأذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالعودة إلى أحب البلاد إلى الله، وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (القصص:85).
وكما أنجى الله أنبياءه، ونصر أصفياءه، وعد بنصرة عباده المؤمنين القابضين على دينهم والمتضرعين الصابرين على لأواء الطريق: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمرن:195).
ومن ذلك الإيذاء أيضًا.. الحرب الإعلامية وتكميم الأفواه:
ود هؤلاء المشركون لو لم يوجد المؤمنون في الدنيا من حولهم، وإن وجدوا فيا حبذا لو لم يعملوا بالحق الذي معهم، ولو عملوا به في أنفسهم؛ فلا ينبغي أن ينطقوا به ولا ينبغي أن يدعوا إليه، فكراهتهم للحق معلومة، بل واشمئزازهم منه: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر:45)، وبلغ بهم من كرههم لهذا الأمر أنهم حتى حاولوا منع الأنبياء وعامة المؤمنين المصلحين من الكلام -مجرد الكلام- إذ أنه يعريهم أمام أنفسهم وأمام الناس ويفضح أعمالهم، وكم استغلوا أبواقهم الإعلامية ووجهوها، ورصدوها رصدًا؛ للصد عن سبيل الله، والتلبيس على الناس وإضلالهم، وتأليب الناس على الدعاة والصالحين، وتشويه الحق والتنفير منه وتزيين الباطل والترغيب فيه.
ولكن الله –تعالى- برحمته وحكمته يبين للناس الحق الذي أنزله ليمتاز عن الباطل الذي يفتريه الناس (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) (الرعد:17).
وحال أهل هذا الحق النافع للناس أنهم مستمسكون به متشبثون بأنواره صابرون على لأوائه وإن خالفهم من خالفهم، لا يملكون أمام هذه الحرب الشعواء إلا النطق بالحق والعمل به (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:94-99).
والحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-..