كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ارتبط بأذهان الكثيرين صعوبة اللغة العربية وجمودها وذلك لأسباب عدة، منها: الجهود الكبيرة المضنية لأعداء الإسلام وأعداء هذه الأمة؛ للنيل من اللغة وتشويه صورتها بشتى الطرق والأساليب؛ وذلك لإبعاد الأمة عن هويتها وطريق ثقافتها، والفصل بينها وبين تراث الأجداد، وهذا بلا شك أحد العوامل القوية المؤثرة في هدم الأمة وإبعادها عن دينها؛ وإلا فكيف يُفهم القرآن والسنة وأقوال العلماء وكتب الفقه والحديث وغيرها بدون معرفة اللغة العربية؟! فلا يستطيع المسلم فهم دينه وأحكامه إلا بمعرفة اللغة العربية، وكم عانت الأمة من عُجمة أبنائها!
ومنها: سياسات تعليمية فاشلة، ومناهج دراسية تزيد الأمر تعقيدًا، ومعلم للغة يجهل منها أكثر مما يعلم، لا يجيد الحديث بها ولا تدريسها، ولا يعرف كيفية إعراب جملة ليست من أمثلة الكتاب المقرر؛ فضلاً عمن يهاجم اللغة ممن هم من العرب والمفترض أنهم يتكلمون بلغة العرب.
وفي الوقت الذي تحاول فيه كل أمة بعث الحياة في لغتها حتى وإن اندثرت أو كانت لغة عقيمة جافة أو كلماتها أشبه بشخير النائم نجد من المسلمين من يحاول إماتة اللغة العربية، وبعث العامية التي لا أصول لها ولا قواعد ولا ضوابط، بل حتى ولا ثبات!
إننا بغير لغتنا العربية كجسد مقطوع اليد والقدم فلا يستطيع الحراك، جسد مشلول عن الحركة والإبداع والتقدم.
ولا تعجز اللغة العربية عن مواكبة العلم والتقدم والحضارة، ومن يزعم أن لغة العلم والحضارة الآن هي اللغة غير العربية فهذا ليس عيبًا في اللغة ولا عجزًا منها، ولا دخل لها فيه؛ فإن المشكلة فينا لا فيها، ومنا لا منها؛ فنحن الذين تخلفنا وعجزنا، ولقد ظلت العربية لغة العلم قرونًا حين حَكمت شريعة القرآن الدنيا، وكانت علامة المدنية والحضارة عند الأوروبيين أن يتكلم أحدهم باللغة العربية، وكان ملوكهم يرسلون أبناءهم؛ ليتعلموا العلم من المسلمين، ومنه تَعَلـُّم لغتنا العربية حتى غاظ ذلك القساوسة والرهبان؛ فحذروا من ذلك بإصدار قرارات الطرد والإبعاد لمن يتحدث العربية.
إن لغة القرآن لا تعجز أبدًا عن بعض المصطلحات الفيزيائية أو الكيمائية أو الطبية أو غيرها من فروع العلم، ولله در حافظ إبراهيم حين قال نيابة عن اللغة:
وسعتُ كتاب الله حـفـظـًا وغـاية وما ضـقـت عن آي به وعـظـات
فكيف أضيق اليـوم عـن وصـف آلة وتـنسيق أسماء لمخـترعـات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
إلى أن قال:
أرى لرجـال الغـرب عزًا ومنعة وكم عـــز أقـوام بعـز لـغـات
أتـوا أهـلها بالمعـجـزات تـفنـنـًا فيا ليـتـكم تـأتـون بالكـلمـات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ينادي بوأدي في ربيع حياتي
إلى آخر قصيدته الرائعة على لسان اللغة العربية.
والدعوة إلى أن تكون العامية لغة الكتابة والحوار والصحافة والإعلام دعوة في غاية الخطورة على أمتنا؛ بل على ديننا، ورحم الله الدكتور "عبد الرحمن الباشا" حين كتب كتابه القيم الذي عنوانه يدل على محتواه وقيمة فائدته التي احتواها: "العدوان على العربية عدوان على الإسلام".
وقد كانت هناك تجربة رائعة في هذا المجال للدكتورة "نفوسة زكريا سعيد" في كتابها الماتع: "تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر"؛ الكتاب الذي أشاد به العلامة اللغوي الكبير الدكتور "محمود محمد شاكر" -رحمه الله-، في كتابه: "أباطيل وأسمار"، فكان مما قال:
"وهذا الكتاب النفيس من تأليف الدكتورة "نفوسة زكريا سعيد" المُدَرِّسة بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، والجهد المبذول في جمع مادة هذا الكتاب جهد يدل على التجرد الصحيح السليم في طلب المعرفة، وعلى الصدق في السعي إلى الحقيقة، وعلى النفاذ في إدراك الحقائق، وعلى الصبر في معاناة التنقيب بلا كلل ولا ملل.
ولا أظنني قرأت منذ سنوات طوال كتابًا يتناول المسائل العامة في حياتنا الحديثة بَذل فيه صاحبه من الوقت والجهد والأناة ما بذلته الدكتورة نفوسة في كتابها هذا، ولا أظنني قرأت أيضًا في هذا الدهر كتابًا ينبغي لكل عربي وكل مسلم أن يقرأه من ألفه إلى يائه يضارع هذا الكتاب! وحسبها أنها استطاعت أن تجلو للناس صورة صحيحة صادقة مؤيدة بالأسانيد بلا تزيّد ولا كذب ولا ادِّعاء عن أكبر معركة تدور في العالم العربي والإسلامي؛ وهي: معركة البناء أو الهدم، معركة الحياة أو الموت، معركة الحرية أو الاستعباد، معركة وحدة العرب والمسلمين بلغة عربية واحدة هي لغة الفصحى أو تفرُّق العرب والمسلمين أشتاتًا بلغات متنابذة هي العامية.
ولو كان لي من الأمر شيء لأَمرتُ أن يطبع هذا الكتاب ليكون في يد كل شاب وشابة، وكل رجل وامرأة، ويكون له مختصر ميسر لكل من مكَّنه الله -تعالى- من القراءة، ولَستُ أريد الإغراق في الثناء وإخلاء الكتاب من كل عيب، ولكني أراه كتابًا صالحًا لكل مثقف يجد فيه مادة صحيحة لتاريخ معركة قاسية خبيثة، إذا وقانا الله شرها باليقظة فقد نجونا من المحنة الساحقة، وإذا أسأنا فابتلينا بتمام الغفلة؛ فذلك ذل الأبد -ولا حول ولا قوة إلا بالله وحده-". أباطيل وأسمار،125-126.
ويكفي هذه الشهادة لبيان قيمة ومكانة هذا الكتاب من رجل في مكانة الدكتور "محمود شاكر"، وفي كلامه بيان لخطورة معركة إقصاء الفصحى وإحلال العامية بدلاً منها، وهي معركة قد عاشها وخاضها واكتوى بنارها.
وهذا الكتاب هو الرسالة التي تقدمت بها الدكتورة "نفوسة زكريا" لنيل درجة الدكتوراه من كلية الآداب جامعة الإسكندرية.
ابتدأت رسالتها ببيان خطتها ومنهجها في هذه الدراسة وهذا البحث، وقدمت لها بتمهيد بديع بدأت فيه بتعريف الفصحى والعامية ووجود اللهجات عند العرب منذ أقدم عصورهم، إلا أن اللهجة القرشية استطاعت أن تتغلب على لهجات القبائل المتعددة؛ بفضل ما كان لأهلها من سلطان ديني واقتصادي وسياسي، وما كان لها من تفوق على سائر اللهجات العربية من حيث غزارة المادة ورقة الأسلوب والقدرة على التعبير في مختلف فنون القول؛ ترتب على ذلك أن أصبحت لغة الأدب عند جميع القبائل العربية.
ولما انتشر الإسلام وامتدت فتوحاته ازداد اختلاف لهجات المحادثة؛ بسبب اختلاط العرب بالأعاجم، وانتقال العربية إلى الأمصار، واختلاف القبائل العربية النازلة بتلك الأمصار، واختلاف الشعوب الأعجمية المجاورة لها.
وكان من أول مظاهر الابتعاد عن الفصحى: اللحن، وهو أول أدواء العامية -"واللحن هو الخطأ أو الميل عن الصواب، والمقصود هنا الخطأ في اللغة"-، ورويت أخبار عن ظهوره منذ القرن الأول في عصر الدولة الأموية، واستهجان خلفائها وولاتها وأدبائها له؛ فقد روي أن "عبد الملك بن مروان" كان يحذر أبناءه من اللحن؛ لأنه كان يرى "أن اللحن في منطق الشريف أقبح من آثار الجدري في الوجه، وأقبح من الشق في ثوب نفيس"، وروي أيضًا أنه لم يستعمل صيغـًا ملحونة حتى في المزاح، وأنه كان يقدر الدقائق اللغوية حق قدرها، وكان ابنه "مَسْلَمَة" يمقت السائلين -المتسولين- الذين يلحنون في لغتهم، ولم يكن "الحجاج" يحرص على أن ينطق عربية ناصعة فحسب؛ بل كان يلزم بها المتصلين به.
ومدح "رؤبة" "بلال بن أبي بردة" قاضي البصرة: "فزت بقدحي معرب لم يلحن"، وذم "يحيى بن نوفل الحميري" "خالد بن عبد الله القسري" والي العراق للحنه؛ فقال فيه: "وألحن الناس كل الناس قاطبة..."، وكان يولع بالتشديق في الخطب.
وما سقناه يبين تعظيمهم للغة العربية وتقديرهم لأهلها، ولما ازدادت الأدواء التي طرأت على اللسان العربي من أثر اللحن والتحريف والدخيل اتجه علماء اللغة إلى كلام العامة محاولين إصلاحه لا تدوينه، وألفوا في ذلك عشرات الكتب مُنبِّهين إلى لحن العوام أو الخواص الذين تطرق الفساد إلى لغتهم.
ثم بدأت بعد ذلك في أول أبواب الرسالة: "الدعوة إلى العامية في أصولها الأولى من مصادرها الأجنبية"، وهو الباب الأول من خمسة أبواب هي مجموع أبواب الكتاب، وقد نهجت الباحثة في كل الأبواب إلى تقسيمها إلى فصول، فالباب الأول ثلاثة فصول ذكرت فيه المؤلفات الأجنبية التي تناولت دراسة اللهجة المصرية "العامية"، والتي حاولت أن تقدمها لنا في أثواب علمية انطوت جميعها على أهداف مغرضة لا تمت إلى العلم بنسب.
لقد اهتم الأوروبيون بدراسة اللهجات العربية المحلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فأدخلوا دراستها في مدارسهم وجامعاتهم، واهتموا بالتأليف فيها واستعانوا بداية بأبناء العربية الذين يعملون في بلادهم سواء في تدريسها أم في التأليف فيها، إلى أن توفرت لهم الوسائل فأخذوا يؤلفون بأنفسهم في كل لهجة من اللهجات العربية؛ ولكن مؤلفاتهم في اللهجة المصرية هي التي وضحت فيها أهدافهم الحقيقية من دراسة اللهجات العربية والمحلية، وهذه المؤلفات على اختلاف موضوعاتها قد اتحدت في هدف واحد هو السعي لإقصاء العربية الفصحى عن الميدان الأدبي وإحلال العامية محلها، وقد أجادت الدكتور نفوسة في توضيح ذلك بدراسة هذه المؤلفات وبيان ما فيها مع الكشف عن الجهود الأوروبية لأن يكون للعامية أدب مدون، هذه الثغرة التي تحول بين العامية وبين الظهور والرواج في الميدان الأدبي؛ فتتبعت هذه الجهود والمحاولات في الفصلين الثاني والثالث من هذا الباب.
والباب الثاني: خصص عن نشأة وتاريخ الصراع بين الفصحى والعامية، وقد عُنوِن بـ: "الدعوة إلى العامية في مرحلتها الثانية على ألسن العرب في مصر"، وهذا الباب الذي يظهر فيه بوضوح أن الدعوة إلى العامية لم يكن لها وجود قبل مناداة الأوروبيين بها.
وأن الذين كتبوا بالعامية قبل انتشار الدعوة الأوروبية إلى العامية والتي فكروا في ضبطها واستخدامها في الكتابة إنما أرادوا تثقيف العامة والترفيه عنهم على أن تظل للفصحى مكانتها في الميدان الأدبي، هذا فارق كبير بين هدفهم وهدف الأوروبيين.
وقد قامت الدكتورة ببحث ذلك في المؤلفات والمجلات والصحف التي تناولت هذا الموضوع، ولم تقف المعركة بين الفصحى والعامية عند مجال دون مجال، أو أن تقتصر على الصحف أو المجالات أو القصة وإنما كان لها الأثر حتى في مجال الدراسات اللغوية حيث أصبحت العامية والفصحى على حد سواء موضع اهتمام الباحثين، وهذا كان مجال الحديث في الباب الثالث عن المؤلفات التي تناولت دراسة العامية استجابة لرغبات أجنبية، وكيف أثارت الدعوة إلى العامية اهتمام الباحثين بدراسة الفصحى إلى تذليل ما فيها من الصعوبات، وتيسير نحو العربية وتيسير كتابتها ومادتها.
ثم خصصت المؤلفة الباب الرابع لأثر الدعوة إلى العامية في انتشار المؤلفات المدونة بالعامية، وتناولت بالدراسة: العامية في كتب المفاكهة والمسامرة، والعامية في المسرحية، والعامية في القصة، والعامية في الزجل.
وأما الباب الخامس فقد كان مسك الختام بحق وإعادة البسمة إلى شفاه محبي العربية ومحبي أمتهم ودينهم:
"التجربة ترد للفصحى اعتبارها".
خصص هذا الباب لتجارب رواد أدبنا الحديث الذين مارسوا الكتابة بالفصحى والعامية وخرجوا من طول المراس بنتائج هي الدليل القاطع الذي يحسم النزاع بين الفصحى والعامية.
هذه في عجالة إطلالة سريعة في هذا الكتاب الماتع، وهذه إشارات إليه فمن الصعب تبيين كل ما فيه، وقد قاربت صفحاته على الخمسمائة، وحسبي أني أحيل القارئ إليه، وأدله عليه؛ ليقطف من جناه.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه.