كتبه/ أحمد يحيى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كانت دعوة المسيح -عليه السلام -هي عبادة الله وحده لا شريك له، وأنه عبد الله ورسوله، أرسله الله إلى بني إسرائيل مصدقـًا لدعوة موسى -عليه السلام-، وناسخًا لبعض أحكام "التوراة" مع تصديقها في أصول التوحيد.
لم يدّع المسيح قط أنه هو الله، أو ابن الله، أو أنه إله أو نصف إله أو ليس بإنسان، بل منذ ولادته المعجزة ودعوة التوحيد لم تفارق لسانه مصرحًا بها بين بني إسرائيل؛ قال -تعالى-: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا . يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا . فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا . قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا . ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ . مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ . وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (مريم:27-36).
فـ"المسيح" -عليه السلام- لم يكن إلا بشرًا رسولاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، يمرض ويتعب، ويجوع ويعطش، ويتعبد لربه، شأنه شأن رسل الله السابقين -عليهم السلام-؛ قال -تعالى-: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المائدة:75).
وبالرغم من تحريف "الأناجيل" المعتمدة لدى النصارى وشيوع العقائد المنحرفة بين صفحاتها، إلا أنه قد بقي فيها بعض بقايا دعوة المسيح -عليه السلام-، والتي تثبت إنسانية "المسيح" -عليه السلام- ورسالته، وتقطع ببطلان ما يدعيه النصارى من القول بألوهيته.
ونستطيع أن نقول أنه لا يوجد نص واحد صريح في شيء من "الأناجيل" يدعي فيه "المسيح" أنه إله حق أو أنه من جوهر الله أو أنه ليس بإنسان.
كذلك لا يوجد نص واحد صريح يثبت أن أحدًا عبد "المسيح" ولا حتى تلامذته، بل جميع معاصريه لم يكونوا يعتقدون أكثر من نبوته.
كذلك لا يوجد نص واحد صريح عن "التثليث" إلا في رسالة "يوحنا الأولى 5/7"، ورسالة "بطرس الأولى" إلى "تيموثاوس" "3/16"، والنصان مطعون في صحة نسبتهما من قـِبَل محققي النصارى مثل: القس "جيمس أنِس"، ومحققي الرهبانية اليسوعية.
دعوة المسيح -عليه السلام -في الأناجيل:
النصوص الصريحة عن دعوة المسيح -عليه السلام-:
منها: نصوص تصرح بنبوته:
مثل ما ذكره إنجيل "متى 13/57": "وأما يسوع فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته"،
وفي "إنجيل لوقا 4/24": "وقال: الحق أقول لكم إنه ليس نبي مقبولاً في وطنه".
ولما خوَّفه "الفريسيون" من "هيرودس" قال لهم: "بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه؛ لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن "أورشليم". يا "أورشليم" يا "أورشليم" يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين... "؛ فشهد لنفسه بالنبوة وخاف من مصرعه في "أورشليم" كما صرع فيها غيره من الأنبياء، فغادرها قائلاً: يا "أورشليم" يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين. ولم يقل: يا قاتلة الإله!
ومنها: نصوص تصرح بإنسانيته:
ومن أصرحها: قوله عن نفسه: "وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله". "يوحنا 8/40".
وكذلك ما جاء في "إنجيل مرقس14/21": "ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب".
وفي "إنجيل متى 16/13": "ولما جاء يسوع إلى نواحي "قيصرية فيلبس" سأل تلاميذه قائلاً: من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان".
وفي "إنجيل لوقا 11/30": "لأنه كما كان "يونان" آية لأهل "نينوى"، كذلك يكون ابن الإنسان -أيضًا- لهذا الجيل".
وفي "إنجيل يوحنا 12/23": "وأما يسوع فأجابهما قائلاً: قد أتت الساعة؛ ليتمجد ابن الإنسان".
ومنها: نصوص تنفي عنه صفات الإله، وتفرق بينه وبين الله:
ومن أشهرها: ما جاء في "إنجيل يوحنا 17/3": "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته".
وفي "إنجيل متى 19/17": "فقال له: لماذا تدعوني صالحًا ليس أحد صالحًا إلا واحد، وهو الله".
وفي "إنجيل مرقس 12/29": "فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنـًا سأله: أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، هذه هي الوصية الأولى".
اعتقاد بني إسرائيل في "المسيح" -عليه السلام-:
فهذه النصوص صريحة جدًّا أن "المسيح" لم يكن إلا عبدًا لله أكرمه الله بالنبوة والرسالة، بل لقد كان الاعتقاد السائد زمن "المسيح" -عليه السلام- هو القول بنبوته فقط دون ادعاء الألوهية من أحد من أصحابه أو من أعدائه؛ فحواريوه لم يعرفوا عنه إلا كونه نبيًّا، وأما اليهود فقد كذبوه في ادعاء النبوة، ولم يخطر ببالهم ولا بباله -أصلاً- ادعاء الألوهية.
فاليهود لاحقوه واضطهدوه، وطلبوا منه ما يبين صدق ادعائه، فأخبرهم أنه لن تأتيهم إلا آية مثل آية "يونان" النبي -"يونس" عليه السلام-، كما يذكر "إنجيل متى 12/38-39": "أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلم نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له إلا آية "يونان" النبي". ولو كان يدعي الألوهية وأن يؤمنوا بأنه ابن الله ما رضوا منه بمثل آية "يونان" النبي، ولطالبوه بآية أعظم من آيات الأنبياء.
ولما أراد اليهود قتله كانت جريمته عندهم دعوى النبوة لا الألوهية، فقد قالوا لنيقوديموس: "ألعلك أنت -أيضًا- من "الجليل"؟ فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من "الجليل" "يوحنا 7/52"، فهم يكذبون "المسيح" -عليه السلام -في دعواه النبوة؛ لأنه لم يسبق أن أتى نبي من "الجليل" التي هو منها.
والذين عاشروا "المسيح" -عليه السلام- وعاينوه ما علموا عنه أكثر من كونه نبيًّا، كما في قصة المرأة السامرية التي رأت معجزات "المسيح"، كما يذكر "إنجيل يوحنا 4/19": "قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي". فما صحح لها "المسيح" ذلك المعتقد، ولم يعنفها على ذلك، ولم يعلمها أن خلاصها يكون بغير ذلك.
والأعمى الذي شفاه "المسيح" -عليه السلام- بإذن الله شهد بنبوة "المسيح" أمام الناس، كما في "يوحنا 9/17": "قالوا -أيضًا- للأعمى: "ماذا تقول أنت عنه من حيث أنه فتح عينيك؟ فقال: إنه نبي".
وكذلك الجموع التي استقبلته لما دخل "أورشليم" كانت تعتقد نبوته فقط: "ولما دخل "أورشليم" ارتجّت المدينة كلها قائلة من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من "ناصرة الجليل" "متى:21/10-11".
وكذلك كان اعتقاد كل من شهد معجزات المسيح -عليه السلام-:
ففي "إنجيل يوحنا 6/14": "فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم".
وفي "إنجيل متى 14/5": "ولما أراد أن يقتله خاف من الشعب؛ لأنه كان عندهم مثل نبي".
وفي "متى 21/45-46": "ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم. وإذ كانوا يطلبون أن يمسكوه خافوا من الجموع؛ لأنه كان عندهم مثل نبي".
بل إن الشيطان نفسه لم يكن يعلم شيئًا عن ألوهية "المسيح" -عليه السلام-؛ ولذلك جربه ثلاث مرات، وفي إحداهن طلب منه أن يسجد له كما في "إنجيل متى 4/8-10": "ثم أخذه -أيضًا- إبليس إلى جبل عالٍ جدًّا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي. حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان؛ لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد".
ففي هذا النص يعلم الشيطان أنه مجرد إنسان لا أنه إله، ولذلك؛ جربه بأن طلب منه أن يسجد له، ويقر "المسيح" ويعترف أنه لا يسجد إلا لإلهه ولا يعبد إلا إياه، ولو كان إلهًا؛ لما جربه الشيطان، وما تجرأ أن يطلب منه السجود له، ولا أن يعده أن يعطيه جميع ممالك العالم، ولو حدث؛ لاكتفى "المسيح" أن يخبره أنه هو الإله، وأنه صاحب هذه الممالك كلها، لكن كل هذا لم يحدث.
هل كان الاعتقاد بألوهية "المسيح" سرًّا بينه وبين الحواريين؟
لعل بعض النصارى يظن أن اعتقاد الألوهية كان سرًّا بين المسيح وبين تلامذته، وهذا الادعاء ليس هناك ما يدل عليه من نصوص "الأناجيل"، بل لقد ورد ما يخالفه وينقضه، ففي "إنجيل يوحنا 18/19-20": "فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. أجابه يسوع: أنا كلمت العالم علانية، أنا علّمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائمًا، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء".
يعلق القمص "عبد المسيح بسيط" على ذلك في كتابه: "أبو كريفيا العهد الجديد" بقوله: "لم يكن للمسيح أي تعليم سري" اهـ.
وعلى فرض أنه كان سرًّا بينه وبين التلامذة، فلماذا يخفي على الناس اعتقاد فيه خلاصهم ونجاتهم؟
وهل كان يخفى على "يوحنا المعمدان" كذلك -يحيى عليه السلام-، ففي "إنجيل متى 11/2-3": "أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال "المسيح" أرسل اثنين من تلاميذه. وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر"؟ فهل خفيت ألوهيته على "يوحنا المعمدان" الذي قام بتعميده وبشر به وصدقه؟ بل هذا دليل على أنه لم يكن يعلم عنه أكثر من كونه نبيًّا إلى بني إسرائيل.
وإذا خفي على الناس فهل خفي على أمه -أيضًا-؟ ففي "إنجيل لوقا 2/43-50": "وبعد ما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في "أورشليم"، ويوسف وأمه لم يعلما. وإذ ظناه بين الرفقة ذهبا مسيرة يوم، وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف. ولما لم يجداه رجعا إلى "أورشليم" يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسًا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم. وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته. فلما أبصراه اندهشا وقالت له أمه: يا بنيّ لماذا فعلت بنا هكذا؟، هو ذا أبوك، وإنا كنا نطلبك معذبين. فقال لهما: لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي؟ فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما".
فهل علمت أمه أنه ابن الله؟
ولماذا نسبته أمه في هذا النص إلى "يوسف النجار"؟
وهل أنكر عليها أن ينسب إلى "يوسف"؟ أم أنكر عليهما الجد في البحث عنه؟
وربما يعترض البعض فيقول: لكن "المسيح" صرح هاهنا أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه، وهو بالقطع لا يقصد يوسف ولذلك لم يفهم كلامه، فلم يكن قصده إلا الله.
ونقول: نعم قد كان هذا قصده، لكن هذا النص كالنص الآخر الذي تحدث به "المسيح" إلى "مريم المجدلية" بقوله: "ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" "يوحنا:20/17".
فالأبوة هنا مجازية محضة، مثل ما ورد في "إنجيل متى 5/9": "طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم أبناءَ الله يُدعون"، وما ورد في "متى 5/48": "فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل"، وغير ذلك من النصوص، وليس هذا موضع بسط ذلك، ولكن المقصود أن المسيح كان يعلِّم الناس علانية، ولم يكن له أي تعليم سري.
عقيدة "الحواريين" في "المسيح" -عليه السلام-:
ولذلك فأقرب تلامذة "المسيح" وأخص أصحابه "بطرس" وقف يخطب في الناس قائلاً: "أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم -أيضًا- تعلمون" "أعمال الرسل:2/22".
فلم يشر في خطبته المهمة تلك التي كان مؤيدًا فيها من "الروح القدس" إلى ناسوت ولا لاهوت ولا إله متجسد.
بل حتى بعد "الصلب" المزعوم لما ظهر "المسيح" -عليه السلام- لرجلين من أصحابه قد حزنا بسبب ما تردد عن صلبه سألهما عن سبب حزنهما فقالا: "يسوع الناصري الذي كان إنسانًا نبيًّا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت، وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل" "لوقا 24/19-21"؛ فظل الاعتقاد بنبوة "المسيح" -عليه السلام- هو الاعتقاد بين تلامذته في حياته وبعد صلبه المزعوم.
وقد شهد القرآن بعقيدة "الحواريين" لما دعاهم المسيح -عليه السلام-، فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) (المائدة:111)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف:14).
ويعترف "بطرس قرماج" في كتابه "مروج الأخبار في تراجم الأبرار": أن "بطرس" و"مرقس" كانا ينكران ألوهية "المسيح" -عليه السلام-.
ويقول "عوض سمعان": "إن المتفحصين لعلاقة الرسل الحواريين بـ"المسيح" -عليه السلام-؛ يجد أنهم لم ينظروا إليه إلا على أنه إنسان؛ لأنهم كيهود كانوا يستبعدون أن يظهر الله في هيئة إنسان، نعم كانوا ينتظرون "المسيّا"، لكن "المسيّا" بالنسبة إلى أفكارهم التي توارثوها عن أجدادهم لم يكن سوى رسول ممتاز يأتي من عند الله، وليس هو بذات الله" اهـ.
خلاصة القول:
عقيدة المسيح -عليه السلام -وحوارييه أنه كان نبيًّا رسولاً ختم الله به أنبياء بني إسرائيل، وكانت دعوته لهم خاصة، كما جاء في القرآن الكريم: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) (المائدة:46)، وقال -تعالى-: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ . وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) (آل عمران: 48-51).
وقال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (الصف:5).
وهذا المعنى جاء مقررًا في "الأناجيل"؛ مثل ما ورد في "إنجيل متى10/6": "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"؛ فلو كان إلهًا لما كان خاصًا بأمة دون أمة.
وكذلك ما جاء في "إنجيل لوقا 1/32-33": "فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم؛ لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنـًا وتسمينه: "يسوع". هذا يكون عظيمًا وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية". فهذا يشهد أنه رسول خاص ببني إسرائيل، وليس إلهًا خاصًا بهم.
هكذا كان المسيح عيسى -عليه السلام -؛ كما قال الله -تعالى- عنه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً. لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا) (النساء:171-172).
فدلت الآية على أن "المسيح" عيسى -عليه السلام -عبد الله؛ ردًا على النصارى الذين غلوا فيه وادعوا ألوهيته، وعلى أنه رسول لله؛ ردًا على مزاعم اليهود الذين جفوا فيه وسلبوه رسالته.
وقوله -تعالى-: (وَكَلِمَتُهُ) أي: كان بكلمة الله، كما في الآية الأخرى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (آل عمران:47)، فسمي عيسى: "كلمة الله"؛ لأنه كان بكلمة الله التي هي: "كن".
وقوله -تعالى-: (وَرُوحٌ مِّنْهُ) أي: من عنده كما في قوله -تعالى-: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ) (الجاثية:13).
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ) (متفق عليه).
ولأجل ذلك فالمسيح -عليه السلام- يتبرأ ممن عبده في الدنيا والآخرة؛
أما في الدنيا فلا تقوم الساعة حتى ينزل مرة أخرى حَكمًا عدلاً، وإمامًا مهديًا مقسطـًا، فيقاتل الناس على الإسلام، فيكسر الصليب ويذبح الخنزير، وتُجمَع له الصلاة ويضع الجزية، كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأما في الآخرة، فكما قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:116-118).
والحمد لله رب العالمين.