كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد مرت أمتنا الإسلامية عبر تاريخها الطويل بمحن وفتن، وابتلاءات كثيرة؛ كانت تحتاج لمن يواجهها، ويتصدى لها، ممن يملكون العلم الدقيق؛ ليدركوا الحق من الباطل، وممن يملكون الصدق والإخلاص؛ ليثبتوا على ما عرفوا من الحق، خاصة وأن الأمة تتطلع إليهم، وتقتدي بهم، وتسترشد بما يقدمون لدينهم؛ فإن الفتن إذا اشتدت لا يَعرِف ما الصواب تجاهها إلا العلماء الأفذاذ، وإذا انجلت ومضت استبان للجميع وجه الحق الذي كان يجب نحوها، ويفخر تاريخنا بالكثير من العلماء الربانيين الأثبات الذين واجهوا الفتن والمحن بما ينبغي، وجهروا بالحق وقت الحاجة الماسة إلى من يجهر به؛ لئلا تضل الأفهام؛ ولئلا تزل الأقدام.
ومثل هؤلاء العلماء الربانيين تبتهج النفوس بذكرهم، وتطرب الآذان بسماع قصصهم، وترطب الأفواه بذكر أحوالهم.
ونسوق في هذا المقام بعضًا من النماذج العظيمة لعلماء الأمة الربانيين في بعض مواقفهم المجيدة نصرة لدينهم، ودفاعًا عن الحق الذي علموه.
ونبدأ بمواقف غاية في القوة والثبات، ومعرفة الحق، والعمل من أجله، ونعني به مواقف خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: حيث ابتليت الأمة في زمن خلافته بما تنوء بحمله الجبال، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد توفي، ومن الأمة من ارتد، ومنهم: من منع الزكاة، وجيش أسامة على مشارف المدينة ينتظر الأمر بالخروج إلى الروم، ولو خرج فمن للمدينة يحميها من المتربصين بها؟ ومن للجزيرة العربية ينابذ الخارجين عن الأمة؟؟
ولكن الصديق -رضي الله عنه- بما أوتي من قوة العلم، وقوة الإيمان والثبات؛ يبين وجه الحق لمن استشكل عليه، فلا تفريق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوه عقالاً كانوا يؤدونه لقاتلهم عليه، أفيُنتقص الدين والصديق حي؟!
ويُنفذ جيش أسامة حيث وصى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما كان الصديق ليحل لواءً عقده النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحدد مهمته ووصى بها، وهو يقاتل المرتدين؛ حتى يعيدهم لحظيرة الإسلام، ويقضي على فتنة مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، ويباغت من سولت لهم أنفسهم أن يهاجموا المدينة، وقد تصوروا أنها صارت لقمة سائغة لهم؛ لقلة الجند فيها بعد خروج جيش أسامة، فهزمهم بنفسه شر هزيمة في معركة "ذي القصة" -والقصة: موضع قرب المدينة على مرحلة منها-.
فلم تمضِ مدة خلافته على قصرها إلا وقد وحَّد الجزيرة كما كانت، وأعاد للإسلام هيبته، فكان فضله على الأمة بعد وفاة نبيها -صلى الله عليه وسلم- لا يقل روعة عن حاله في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو على منبره: (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِى بَكْ) (متفق عليه)، فرضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.
ومن أشد المواقف صلابة في الحق، وتمسكًا به، وثباتـًا عليه موقف إمام أهل السنة والجماعة "أحمد بن حنبل" من فتنة القول بخلق القرآن: إذ شهدت حياة الإمام أحمد -رحمه الله- ولاية "المأمون" بن هارون الرشيد، الذي مال إلى رأي المعتزلة بالقول أن القرآن مخلوق، وأيده ودعا الناس إليه، بل وامتحنهم عليه مهددًا متوعدًا، فأجابه إلى ما طلب علماء كثيرون مكرهين، ولم يبقَ على الحق إلا أقل القليل، في مقدمتهم الإمام أحمد الذي رأى أن تركه للحق -ولو مكرهًا- في ظل سكوت الجميع؛ يؤدي إلى ضياع الحق، وإضلال عوام الأمة، فأظهر صلابة وشدة في التمسك بالحق مهما كانت عواقب ذلك، ولم يُجب المأمون إلى ما طلب، ولكن المأمون لم يطل به العمر، فجاء من بعده "المعتصم" على نفس منهجه، فضرب الإمام أحمد بين يديه ضربًا شديدًا؛ أشرف به على الهلاك، فلم يتراجع، وناظره علماء المعتزلة، فلم يزد على الاستدلال بالكتاب والسنة، والرد على شبهاتهم المبنية على الخطأ في فهم كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو في ذلك لا يلتفت إلى استدلالاتهم العقلية، طالبًا منهم الدليل على ما يدَّعونه من كتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهيهات!! ثم سجنه المعتصم، وحبسه حبسًا طويلاً.
فلما خلفه الخليفة العباسي "الواثق" استمر الابتلاء حيث ألزم الإمام بالبقاء بداره، فلما تولى من بعده "المتوكل" خالف من سبقوه حيث أطلقه من حبسه بداره، وأظهر القول الحق بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكشف عن الأمة ما كانت فيه من الغمة، وكرَّم الإمام أحمد، وأحسن إليه.
فكان ثبات هذا الإمام الجليل على الحق، وتحمل العذاب الشديد، والحبس الطويل، وتمسكه بمنهج السلف في الاستدلال بالكتاب والسنة، وتقديم النقل على العقل من أسباب تسميته -رحمه الله تعالى- بإمام أهل السنة والجماعة، وهو بهذا الاسم جدير، فجزاه الله عن الأمة خيرًا.
ومن أعظم صور الثبات كلمة حق عند سلطان جائر، ولعلماء الأمة في ذلك مواقف عظيمة لا تنسى:
فمن ذلك ما كان من شأن "الأوزاعي" إمام الشام مع "عبد الله بن علي" -عم السفاح الخليفة العباسي- الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال دولتهم بالسيف: وذلك أنه لما دخل عبد الله بن علي دمشق طلب الأوزاعي، فتغيب عنه ثلاثة أيام، ثم حضر بين يديه.
قال "ابن كثير" -رحمه الله- في البداية والنهاية: "قال الأوزاعي: دخلت عليه وهو على سرير، وفي يده خيزرانة، والمسودة عن يمينه وشماله، معهم السيوف مسلطة، والعمد الحديد، فسلمت عليه فلم يرد، ونكت الخيزرانة التي في يده، ثم قال: يا أوزاعي ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ -يعني يني أمية- أجهادًا ورباطـًا هو؟
قال: فقلت: أيها الأمير: سمعت يحيي بن سعيد الأنصاري يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (متفق عليه) قال: فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: يا أوزاعي ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ الْجَمَاعَةَ) (رواه مسلم).
فنكت بها أشد من ذلك، ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقلت: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرام عليك أيضًا، وإن كانت حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي. فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك، ثم قال: ألا نوليك القضاء؟
فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدءوني به من الإحسان.
فقال: كأنك تحب الانصراف؟
فقلت: إني ورائي حرمًا وهم محتاجون إلى القيام عليهن، وسترهن. وقلوبهم مشغولة بسببي.
قال: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف، فلما انصرفت. إذا برسوله من ورائي، وإذا معه مائة دينار قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفًـًا. قال: وكان في تلك الأيام الثلاثة صائمًا فيقال: إن الأمير لما بلغه ذلك عرض الفطر عنده فأبى يفطر عنده.
قال الإمام "الذهبي" -رحمه الله- في سير أعلام النبلاء: "قد كان عبد الله بن علي ملكًا جبارًا سفاكًا للدماء، صعب المراسي، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخـَلـْق من علماء السوء الذين يُحَسِّنون للأمراء ما يقتحمون من الظلم والعَسْف، ويقلبون لهم الباطل حقـًا -قاتلهم الله-، أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق".
ومن الجرأة في قول الحق ما قال به "العز بن عبد السلام" الملقب بسلطان العلماء -رحمه الله- مع الظاهر "بيبرس"، ومع الملك الصالح: إذ لما أراد الظاهر بيبرس أن يستلم السلطة استدعى الأمراء والعلماء؛ لمبايعته، ففاجأه الشيخ العز بن عبد السلام بقوله: "أنا أعرفك مملوك البندقار"، يريد أنه كمملوك لا يصلح لتولي الحكم، والمبايعة له بذلك، فأحضر ببيبرس من يثبت أن البندقار قد وهبه للصالح أيوب، وأن الصالح أيوب قد أعتقه، فعندئذٍ بايعه الشيخ العز على الملك.
أما الملك الصالح "إسماعيل": فقد تحالف مع الصليبيين، فأنكر عليه الشيخ العز بن عبد السلام؛ فعزله الملك الصالح عن الإفتاء والخطابة، وأمر باعتقاله وحبسه، فلم يتراجع؛ رغم كل محاولات الملك بعد ذلك أن يساومه على ترك موقفه مقابل إعادته لمناصبه التي عزله عنها.
ومن ذلك أيضا: موقف الإمام "النووي" -رحمه الله- مع الظاهر بيبرس، لما أراد قتال التتار بالشام، واحتاج إلى جمع الأموال لذلك، فأخذ الفتاوى من العلماء بجواز الأخذ من مال الرعية يستنصر به على قتال التتار، وأجاز له الفقهاء ذلك، وامتنع الشيخ النووي. فلما سأله عن سبب امتناعه قال له:
"أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير "بندقار" وليس لك مال، ثم منَّ الله عليك، وجعلك ملكًا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من الذهب، وعندك مائة جارية، لكل جارية حق من الذهب، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبنود والصرف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي؛ أفتيتك بأخذ المال من الرعية".
فغضب الظاهر "بيبرس"، وأمره بالخروج من دمشق، فخرج متوجهًا إلى "نوى"، فقال الفقهاء لبيبرس: "إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يُقتدى به، فأعده إلى دمشق".
فدعاه للرجوع إلى دمشق، فامتنع الإمام النووي، وقال: لا أدخلها "والظاهر" فيها، فمات بعد شهر.
وبعد: فهذه قطرات من غيث، وفي تاريخنا الإسلامي العشرات، والعشرات مثلها... وحق علينا أن نتذاكرها؛ لنتأسى بها، ونتنفع بذكراها، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.