الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
رمضان شهر الخيرات والبركات، طال نهاره هذا العام وقصر ليله، فاحتاج العباد أن يقفوا على الطريقة المثلى لاستغلاله.
وكذلك قد يظن من ينشغلون بالدعوة إلى الله أن هناك تعارضًا بين الدعوة والعبادة والخلوة في شهر رمضان، فوجب بيان كيفية الجمع بين الأمرين دون تفريط في أي منهما، خاصة مع ما يحشده أهل الباطل لإلهاء الناس في هذا الشهر الكريم، وما يسعى إليه أهل الباطل من تشويه عقيدة الولاء والبراء في رمضان وغير رمضان.
هذه النقاط وغيرها كانت محور حوارنا مع فضيلة الشيخ جمال عبد الرافع -حفظه الله-، ونبدأ بسؤاله عن ذكرياته في أول رمضان قضاه بين إخوانه
صوت السلف: ما هي ذكرياتكم لأول رمضان مر عليك بين إخوانك في الله، وماذا تفتقد من ذلك الآن؟
جمال عبد الرافع: في الحقيقة أنا لا أتذكر؛ حيث كنت صغيرًا في المرحلة الإعدادية.
صوت السلف: ما هو الشيء الذي تمنيتموه في رمضان العام السابق ولم يحدث وتتمنوا أن لو رأيتموه هذا العام؟
جمال عبد الرافع: أتمنى أن توفق الأمة لنهضة صحيحة وفق الكتاب والسنة، تعيد لها عزها.
- أتمنى أن تمتلئ المساجد بالمصلين لا في أول رمضان فقط، بل في كل رمضان، وليس في رمضان فقط، بل سائر العام.
- أتمنى أن يصبح التوجيه والإرشاد في مساجد المسلمين توجيهًا بلا بدعة أو خرافة، وإرشادًا بلا أحاديث موضوعة، وأن يتولى أمر المساجد من هم أهل لهذه المكانة.
- أتمنى أن يوجد الملتزم الواعي صاحب القلب الحي، والعقل الفطن، واليد الطولى في الخير.
- أتمنى أن تزول من شوارعنا مظاهر العري، والفساد، والبطالة.
- أتمنى أن تمتلئ بيوت المسلمين بحياة أسعد وأرقى وأهنأ.
- أتمنى أن يكون رمضان الماضي هو الأخير في جراحات الأمة.
صوت السلف: رمضان هذا العام أطول نهارًا وأقل ليلاً فما هي نصيحتكم للعابدين لحسن استغلال ذلك؟
جمال عبد الرافع: العبد مكلف بطاعة الوقت، وطاعة النهار في رمضان -بجانب الصوم والحفاظ عليه مما يخدشه ظاهرًا أو باطنـًا-: تلاوة القرآن، والذكر والدعاء، والدعوة إلى الله -تعالى-، والمحافظة على الفرائض، والسعي على الرزق، إلى غير ذلك من العبادات.
وكون النهار أطول فهذا مدعاة للزيادة من هذه الطاعات خاصة والعبد صائم فهذا أدعى للقبول، مع الانتباه أنه والكل صائم فهذا مجال مناسب جدًا، وخصب للغاية لعبادة الدعوة إلى الله -تعالى- ، وتأثر النفوس أثناء الصيام أكثر بكثير من غيره.
صوت السلف: ما هي الفرص المتاحة لتقوية أواصر الأخوة بين الأخوة في هذه الأيام؟
جمال عبد الرافع: الوقت شريف وخاصة في رمضان، والأصل تعويد النفس على قضاء الأوقات فيما ينفع، وعليه: فأواصر الأخوة الصادقة لا تتحقق إلا بالاجتماع على الطاعة سواء في رمضان أو غير رمضان.
فتجمعهم الدعوة ونشاطاتها، وتجمعهم مجالس تعلم القرآن وتعليمه، ويجمعهم السعي في مصالح المسلمين وخدمتهم، ويجمعهم السؤال الدائم على بعضهم البعض؛ للاطمئنان، والمشاورة، والمناصحة... الخ.
صوت السلف: تواجه عقيدة الولاء والبراء حملات شرسة لإضعافها في نفوس الأمة فما هو دور رمضان في إحياء هذه العقيدة؟
جمال عبد الرافع: سهام المشركين والمنافقين موجهة من قديم لضرب عقيدة التوحيد، وخاصة هذا الجزء من الاعتقاد، وقد مرت الأمة بمراحل أخذت تتخلى فيها شيئًا فشيئًا عن اعتقاداتها، بل تبدل الحال وأصبح المشركون هم من ينظرون إلى أهل الإسلام نظرة استعلاء وأهل الإسلام ينظرون إلى الغرب نظرة دونية باعتبار الغرب يملك "ثروة وحرية" والشرق يملك "فقرًا واضطهادًا"... إلى أن شاء الله -تعالى- وانكشف وجه الغرب الكالح بحربه الصليبية على الإسلام والمسلمين، وخاصة في العراق، وأفغانستان، وظهر ذلك أكثر وأكثر في حملاتهم لسب رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في الدنمرك، وغيرها...
هنا استفاق الناس وعلموا أن الإسلام وأهله مستهدفون، وصار عوام المسلمين يتحدثون صراحة بأن الحرب صليبية، وأن الأمر أمر دين... هذا من حيث الشعور العام، لكن من حيث الأفراد فهناك جهل شديد لدى أكثر المسلمين بمعاني لولاء والبراء، ومقتضيات هذا الاعتقاد.
ورمضان يذكرنا تميز المسلم في صومه، وفي فطره، وفي سحوره، وفي سائر عباداته؛ فصيامنا ليس كصيام أهل الكتاب، وفطرنا في توقيته ليس كفطرهم، وفي السحور قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ) (رواه مسلم)، فهناك تميز واضح بين المسلم وغيره.
صوت السلف: يقتصر بعض الدعاة في هذه الأيام على طرح المعاني الوعظية فهل هذا يكفي مراعاة لكون الشهر شهر عبادة وصوم؟ أم أن الأولى استغلال الشهر في تعليم الناس القضايا الأساسية التي تغيب عنهم؟ ولو كان الأمر كذلك فما هي هذه القضايا؟
جمال عبد الرافع: قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في شرح رياض الصالحين:
"العلماء ثلاثة أقسام: عالم ملة، وعالم دولة، وعالم أمة.
أما عالم الملة: فهو الذي ينشر دين الإسلام، ويفتي بدين الإسلام عن علم، ولا يبالي أوافق أهواء الناس أم لم يوافق.
وأما عالم الدولة: فهو الذي ينظر ماذا تريد الدولة فيفتي بما تريد الدولة، ولو كان في ذلك تحريف كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما عالم الأمة: فهو الذي ينظر ماذا يرضي الناس، إذا رأى الناس على شيء أفتى بما يرضيهم، ثم يحاول أن يحرف نصوص الكتاب والسنة من أجل موافقة أهواء الناس" انتهى.
تذكرت هذه المقولة عند ذكر هذا السؤال، فلكلمات الدعاة يجب أن تلامس المشاكل اليومية للناس، وتضع لها الحلول كالبطالة، وانحراف الشباب والعنف، وازدياد معدل الجريمة والعنوسة... الخ.
فتشخيص وعرض، وعلاج مشاكلنا الاجتماعية مسؤوليتنا جميعًا، لقد أصبح كثير من الدعاة يبحثون عما يرضي الجمهور بغض النظر عما يصلحهم ويلزمهم، وصار جلّ كلامهم في العموميات، والمواعظ والرقائق، وانتشر الأمر عبر الفضائيات خاصة، ومع حاجتنا إلى المواعظ والرقائق إلا أنها وحدها لا تكفي لمواجهة الفساد وتغيير الواقع المر، بل إن تأثيرها ينتهي مع أول موجة فساد مقابلة.
فتعليم الناس أصول الدين وفروعه هو الأساس لأي نهضة ثابتة نرجوها، وأما أهم القضايا: فتأصيل الاعتقاد الصحيح أولاً، وترسيخ محبة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ودينه في النفوس، واستيعاب فكرة أن النصر في الآخِر للإسلام، وتوضيح أن الخطر الأكبر على المسلمين الآن هو: "العلمانية"، خاصة وأعداؤنا حريصون على إظهارها بأنها الحل، وأن الإسلام لا يصلح للتطبيق فقد فشل -بزعمهم- في أفغانستان، والصومال، وغزة... إلى آخر ما يرددون... في الوقت الذي يضيقون فيه على الدعوات؛ حتى يختزل تأثيرها ويضعف، وينصرف عنها الناس، وهكذا يظهر المشروع الإسلامي بصورة مشوهة، وتفرغ الساحة للعلمانية فقط.
صوت السلف: رمضان شهر خلوة وصيام وتبتل، فهل هناك تعارض بين هذا وبين بذل الجهد في الدعوة إلى الله في رمضان؟
جمال عبد الرافع: في رمضان يقبل الناس على المساجد، وهم أكثر تأثرًا في رمضان من غيره ويصبح السمت العام للجميع "التدين".
والغريب أن رمضان بالنسبة لأهل الدعاية والإعلام والفن والغناء موسم جد واجتهاد، وبرامج ومسلسلات، وأفلام، وخيمات رمضانية، وباطل ومجون فكيف يترك صاحب الحق الساحة لهم بدعوى الخلوة والتبتل، بدلاً من أن يقتنص الفرصة، ويشمر ساعده، ويرتدي عباءة الإصلاح ونشر الخير بين الناس، ويبذل في ذلك قصارى جهده في الترويج للحق والدعوة لدين الله -تعالى-، ويجهد نفسه وذهنه في ابتكار الوسائل والبرامج لدعوة الخلق إلى الحق؟!
وحال السلف من التفرغ للعبادة والخلوة، والانشغال بالنفس عن الناس كان في زمن سقف الطاعة والصلاح فيه مرتفع، والسمت العام للمجتمع: "الصلاح"، أما الآن فالوضع مختلف، والناس في حاجة إلى من يلاحقهم بالنصيحة، وهم في سائر العام معرضون فكيف إذا أقبلوا عليك في رمضان تعرض أنت؟!
صوت السلف: يقول البعض: يعاني الناس في رمضان من ضعف وخمول نتيجة للصيام فيقل جهدهم في الأعمال الدنيوية فما هي الحكمة في أن يأتي شهر كامل يؤدي إلى تباطؤ اقتصاد المسلمين وإضعافه؟ أم أن الأمر يمكن النظر له من زوايا أخرى؟
جمال عبد الرافع: قرأت أن الأطباء يؤكدون أن التعب في رمضان راجع لعامل نفسي أكثر منه عامل جسدي؛ فالكسل والتباطؤ بالعمل في رمضان هو حالة نفسية تصيب الصائمين، وتوحي لهم بالإرهاق، فيشعرون بالتعب وعدم القدرة على العمل، وشهر رمضان هو شعر العبادة، فيه تتطهر النفس ويصفى الذهن، وهذا أقرب للنشاط، وفيه تمت أهم الفتوحات، ولكن السهر والإفراط في الطعام، والإكثار من الحلويات، وتغيير السلوك الغذائي والمعيشي هو ما يسبب هذا الخمول والكسل.
صوت السلف: القرآن منهج حياة؟ فكيف يمكن للدعاة ترسيخ هذا المعنى في نفوس المقبلين على المساجد في رمضان؟
جمال عبد الرافع: القرآن فيه الاعتقاد، وفيه العمل، فيه العبادات والمعاملات، فيه الأسس التي تـُربى عليها شخصية المسلم القويمة.
ففه أدلة الربوبية بصورة قاطعة، والألوهية، والأسماء والصفات، فيه الأمر بالإيمان: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56).
فيه ذكر العبادات والأمر بها، وكان في الوحي -القرآن والسنة- ذكر تفاصيل تلك العبادات ودقائقها.
فيه ذكر المعاملات وما يحتاج له المسلم في تعامله مع المسلمين أو مع غير المسلمين من بيع وشراء، وزواج وطلاق، والجائز من التعامل وغير الجائز، وحتى العقوبات وتفاصيل العقوبات، فضلاً عما ورد فيه من أوامر بالخلق الحسن، والسمت الحسن، والسلوك الفاضل، وكذا ما ورد فيه من نواهٍ عن كل رذيلة، وخلق سيء.
في القرآن علاج للشهوات، والشبهات، وفي القرآن بناء للأسرة الصالحة فكل ما يحتاجه المسلم كفرد، أو المجتمع على سبيل العموم: موجود في الوحي: الكتاب والسنة.
ومدارسة القرآن في رمضان، والتركيز على ذلك كهدي السلف، وفهم الآيات ومعرفة سبب النزول، والربط بين واقع الجيل الأول والأخير لاشك أنه يؤثر في فهم الآيات وترسيخ معناها في النفس، وضرب المثال العملي للتطبيق من الجيل الأول ليقتدي الأخير.
صوت السلف: ينتقل بعض الإخوة ـومنهم مؤثرون في الدعوةـ بين المساجد طلبًا للقارئ حسن الصوت، فما هي رؤيتكم لهذا التصرف؟
جمال عبد الرافع: منَّ الله علينا بوجود جمع من الملتزمين الواعين بأهمية الدعوة وخطورتها، لكن وجد عند البعض من الملتزمين نوع من "اللا مبالاة" بأهمية الدعوة، وأصبح شعار البعض: "ما دام أن الشيخ فلان موجود ويدرس أو يخطب أو يوجه فيكفي هو".
هناك نوع من البلادة عند البعض، وأصبحت قضية "الأنا مالية" بالنسبة لهم اختيارًا، وطريقة حياة. هو نوع من رفض تحمل أي مسؤولية.
إلا أن المسألة ربما لها أكثر من جانب:
ففي الوقت الذي يحق لكل شخص أن يبحث عن مسجد يخشع فيه أو صوت يخشع خلفه، فإن هذا الحق مشروط بعدم ترك النفع العام -أو قصد الدعوة- إلى النفع الخاص.
كذا على أهل المسجد الحرص على إيجاد الإمام الحافظ المتقن، صاحب الصوت الحسن؛ تفاديًا لخروج البعض إلى مساجد أخرى.
كذلك على إمام المسجد تكليف الجميع -قدر المستطاع- بأعمال دعوية مما يشغلهم عن ترك المسجد والذهاب إلى غيره.
وأخشى أن من كان مؤثرًا في الدعوة وترك مسجده -محل دعوته- إلى مسجد آخر ليصلي فيه أن يأثم إن تسبب في إحباط لمن حوله من العاملين في الدعوة في مسجده؛ مما قد يؤدي إلى إفشال مجهودهم في رمضان، ويكون هم صاحب السنة السيئة.
صوت السلف: يزداد الزخم الإعلامي في رمضان بكل وسائله الملهية والمفسدة فكيف يمكن للدعاة مواجهة هذه الحملة بإمكانياتهم المحدودة؟
جمال عبد الرافع: كما تفضلتم في السؤال: "بإمكانياتهم المحدودة"، إذاً لابد من حل، وفي الحقيقة التفكير بهذه الطريقة غير صحيح -من وجهة نظري-، بل هم إمكاناتهم محدودة، لا نحن؛ لقول الله -تعالى-: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) (الأنفال:36).
والدليل الواقعي على ذلك أن الحملات الصليبية على الإسلام وأهله في الغرب أدت إلى انتشار الإسلام لا انحساره؛ فالقرآن من أكثر الكتب مبيعًا في العالم، وبناء المساجد في ازدياد.
وهكذا في سائر البقاع ما حورب الإسلام إلا وكانت النتائج عكس ما يتمنون، لكن قد يضيق على أهل الحق ويمنعون من وسائل للدعوة، ومع حسن الظن بالله -تعالى-، والإخلاص يوفقون إلى ابتكار وسائل أخرى بديلة؛ فضلاً عن أن المسلم مطالب بالدعوة إلى الله -تعالى-، في كل حال وحتى آخر نفس، ومتى قدَّر الله -تعالى- التضييق من جهة فهو -سبحانه- يفتح لعباده جهات أخرى، والمطلوب هو الأخذ بالأسباب الصحيحة، والله الموفق.