كتبه/ ماهر السيد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمما لا شك فيه أن العين تحب المنظر الحسن وتهواه وتميل إليه، وإذا وقعت العين على ما يعجبها مال القلب إليه ولا شك، كما قيل:
ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألفِ العينان فالقلب آلفُ
فإذا أضيف إلى حسن المظهر الخارجي حسن المنطق، والوقار في الحركة والسكون، والدخول والخروج، واشتهر صاحبه بحسن السيرة بين الناس؛ فلا شك أن الناس سينسبون صاحب هذه الصفات الحميدة لأهل الخير والصلاح والديانة، وهذا هو ما نعنيه بحُسْن السَّمْت.
وقد حثَّ الشرع المطهر على التحلي بحسن السمت؛ فأباح للعبد أن يعتني بمظهره من غير إسراف ولا مَخِيلة؛ فقال الله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْهَدْىَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالاِقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثوب دُونٍ -أي قديم- فقال: (أَلَكَ مَالٌ). قال: نعم. قال: (مِنْ أَىِّ الْمَالِ) قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: (فَإِذَا أَتَاكَ اللَّهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).
ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً شعثـًا قد تفرق شعره قال: (أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).
ورأى رجلاً آخر وعليه ثياب وسخة فقال: (أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). كما قال في نفس السياق: (مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ولما نهى عن الكبر ظن بعض الناس أن العناية بالمظهر والهندَام من الكبر فبين لهم -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الأمر فقال: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ) (رواه مسلم).
كما كان هو نفسه -صلى الله عليه وسلم- أحسنَ الناس هديًا وسمتـًا وجمالاً وبهاءً؛ فعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِلَى الْقَمَرِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ فَإِذَا هُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنْ الْقَمَرِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
حسن الخلق والسيرة من حسن السمت:
مما لا شك فيه أن العناية بالظاهر لو لم يرافقها عناية بالباطن ومحاسنِ الأخلاق والعناية بحسن السيرة بين الناس؛ فإنها تصبح وبالاً على صاحبها؛ لهذا كان الصالحون يجمعون بين حسن الهندام وجمال المظهر وبين حسن السيرة وجمال الخُلـُق، فهذا أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول عنه الميموني -رحمه الله تعالى-: "ما رأيت أحدًا أنظف ثوبًا، ولا أشد تعاهدًا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوبًا وأشد بياضًا من أحمد بن حنبل". وعلى الجانب الآخر من جوانب حسن السمت يقول عنه المَروذي -رحمه الله تعالى-: "لم أر الفقير في مجلسٍ أعزَّ منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلاً إليهم مُقـْصِرًا عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس".
ويقول ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "الكمال عزيز، والكامل قليل الوجود. فأول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن، وحسن صورة الباطن، وصورة البدن تسمى خَلقا، وصورة الباطن تسمى خـُلـُقا، ودليل كمال صورة البدن حسن السمت واستعمال الأدب، ودليل صورة الباطن حسن الطبائع والأخلاق. فالطبائع: العفة، والنزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشَّرَه. والأخلاق: الكرم، والإيثار وستر العيوب، وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل".
وإذا تزين العبد بحسن السمت في الظاهر والباطن صار قدوة يقتدى بها، ويستفيد الناس من رؤيته قبل منطقه، يقول ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه؛ وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته".
وقال ابن مفلح -رحمه الله تعالى-: "كان يحضر مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت".
يتشبهون بالنبي -صلى الله عليه وسلم-:
ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحسن الناس سمتـًا وهديًا فقد كانوا يتشبهون به حتى قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "إن أشبه الناس دَلا -أي حاله من حيث السكينة والوقار وحسن السيرة- وسمتـًا وهديًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن أم عبد -يعني ابن مسعود- من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه...".
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيت أحدا كان أشبه سمتـًا ودلاً وهديًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامها وقعودها من فاطمة -رضي الله عنها-".
وإذا كان الأمر كذلك فإن أولى الناس بحسن السمت لهم أهل العلم والدين والصلاح.
من أهم الأسباب المعينة على اكتساب حسن السمت والتحلي به:
أولاً: تعمير الباطن بالإخلاص لله وتنقية الباطن مما يبغضه الله -تعالى-:
فهذا أصل التحلي بحسن السمت في الظاهر، إذ ما يُسِرُّه العبد يظهر عليه علانية شاء أم أبى كما قيل: "ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر". ومن هنا لا سبيل إلى التماس السمت الحسن بدون إصلاح القلب، ولعل هذا هو ما عناه بعضهم بقوله: "أظهر السمت في الليل فإنه أشرف من إظهاره بالنهار"؛ لأن إظهار السمت بالنهار للمخلوقين وإظهار السمت بالليل لرب العالمين.
إن من أجمل ما يتزين به العبد ويكتسب به السمت الحسن تحقيقه لتقوى الله -عز وجل-، وهي في أساسها عمل قلبي ينعكس على الجوارح، وقد نبَّه الله عباده على هذا المعنى الجليل حين قال: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف:26).
ثانيًا: التزام العمل الصالح وحفظ الجوارح:
وهذا من أحسن ما يتزين به المؤمنون فتراهم يقيمون فرائض الله ويتبعونها بالنوافل، ويراقبون جوارحهم فيحفظونها من المعاصي ومخالفة أمر الله -تعالى-، بل يمنعونها الفضول، وهي الأمور الزائدة عن الحاجة. ومن أهم الجوارح التي ينبغي الاعتناء بها وحفظها اللسان؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (متفق عليه). وقد كان الصالحون يرون أن كثرة الكلام تذهب الوقار. وكان يحيى بن أبي كثير -رحمه الله- يقول: "خصلتان إذا رأيتهما في الرجل فاعلم أن ما وراءهما خيرٌ منهما: إذا كان حابسًا لسانه، محافظـًا على صلاته".
وذكر بعضهم أبياتا نسبها لابن المبارك -رحمه الله- يقول فيها:
الصـمت زيــنٌ للفتى مـن مـنطقٍ في غير حينه
والصدق أجمل للفتى في العـقـد عـنـد يـمـيــنـه
وعـلى الفتى بوقـاره سـمتٌ يلــوح على جبينه
كما يحفظ بصره من إطلاقه إلى ما حرم الله -تعالى-، وفي الجملة يتنزه عن ارتكاب المحظورات بجوارحه، ويعلم أنها ستشهد عليه وستنطق بما فعلت بين يدي الله -تعالى- الذي لا تخفى عليه خافية. كما لا يكثر من الالتفات والعبث بثوبه أو لحيته عند مجالسة القوم.
ثالثـًا: تعمير الظاهر باتباع السنة:
فخير الهدي هدي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ومن الاقتداء به اتباع سنته في الهدي الظاهر بإعفاء اللحية، وحف الشارب، ولبس الثياب البيض، والعناية بنظافتها من غير تكلف ولا كبر ولا خيلاء.
استمع في هذا المقام إلى وصية العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد -رحمه الله- إذ يقول في حلية طالب العلم:
"لا تسترسل في التنعم والرفاهية، فإن "البذاذة من الإيمان"، وخذ بوصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في كتابه المشهور، وفيه:
"وإياكم والتنعم وزي العجم، وتمعددوا، واخشوشنوا". وعليه فازور عن زيف الحضارة، فإنه يؤنث الطباع، ويرخي الأعصاب، ويقيدك بخيط الأوهام، ويصل المُجِدُّون لغاياتهم وأنت لم تبرح مكانك، مشغول بالتأنق في ملبسك، وإن كان منها شيات ليست محرمة ولا مكروهة، لكن ليست سمتـًا صالحًا، والحلية في الظاهر كاللباس عنوان على انتماء الشخص، بل تحديد له، وهل اللباس إلا وسيلة التعبير عن الذات؟!
فكن حذرًا في لباسك، لأنه يعبر لغيرك عن تقويمك في الانتماء، والتكوين، والذوق، ولهذا قيل: "الحلية في الظاهر تدل على ميل في الباطن"، والناس يصنفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف اللابس من:
الرصانة والتعقل.
أو التمشيخ والرهبنة.
أو التصابي وحب الظهور.
فخذ من اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالاً لقائل، ولا لمزًا للامز، وإذا تلاقى ملبسك وكيفية لبسك بما يلتقي مع شرف ما تحمله من العلم الشرعي، كان أدعى لتعظيمك والانتفاع بعلمك، بل بحسن نيتك يكون قـُربة، إنه وسيلة إلى هداية الخلق للحق.
وفي المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أحب إلي أن أنظر القارئ أبيض الثياب". أي: ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.
والناس كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض"؛ فإياك ثم إياك من لباس التصابي، أما اللباس الإفرنجي، فغير خافٍ عليك حكمه، وليس معنى هذا أن تأتي بلباس مشوه، لكنه الاقتصاد في اللباس برسم الشرع، تحفـُّه بالسمت الصالح والهدي الحسن". "انتهى كلامه رحمه الله".
فإياك ثم إياك والتشبه بالكافرين في زيهم وشاراتهم فإن هذا ليس من سمت الصالحين ولا من هدي المسلمين، وفي الحديث: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
رابعًا: صحبة ذوي السمت الحسن:
من العلماء والصالحين فإن مصاحبتهم والخلطة بهم تؤدي إلى الاستفادة منهم في هديهم وسمتهم وأخلاقهم، وقد كان الصحابة يجالسون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستفيدون من لحظه ولفظه، ويتشبهون به في هديه وسمته، كما كان من بعدهم يسأل عن أشبه الناس هديًا وسمتـًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ليأخذوا عنه؛ كما ورد في ذلك أن عبد الرحمن بن زيد -رحمه الله- قال: "سألتُ حذيفةَ عن رجل قريب السَّمْتِ والهَدي والدَّلِّ من رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نأخذَ عنه؟ فقال: ما نعلم أحدا أقربَ سَمْتـًا وهَدْيًا ودَلاّ بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من ابنِ أمِّ عبد، حتى يتوارى بجدار بيته، ولقد عَلِمَ المحفُوظُون من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-: أن ابن أم عبد أقربُهم إلى الله وسيلة".
ولعل علقمة -رحمه الله تعالى- قد حرص على صحبة ابن مسعود -رحمه الله تعالى- لأجل هذا المعنى؛ فقد أورد الذهبي في السير أنه لازم ابن مسعود -رضي الله عنه- حتى رأس في العلم والعمل، وتفقه به العلماء، وبَعُد صِيته، وكان يشبه ابن مسعود في هديه ودله وسمته.
نسأل الله الكريم بمنه أن يرزقنا حسن السمت وأن يزيننا بزينة الإيمان، وأن يجعل سرنا خيرًا من علانيتنا، وأن يسترنا بستره الجميل الطيب في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.