الرئيسية » حوارات » حوارات
السبت 18 أبريل 2009 - 22 ربيع الثاني 1430هـ
سياحة روحية في الصحة والمرض "حوار"
حاوره وقدم له/ د. ناجح إبراهيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مرض "د/ ياسر برهامي" وأجرى عملية جراحية في حلقه، أجبرته على أن يمكث في فراشه بعيدًا عن دعوته ومرضاه وأحبته قرابة عشرة أيام، وقد عدته في مرضه بعد أن تحسنت حالته نسبيًّا، ووجدتها فرصة ثمينة للتحدث معه في قضايا إيمانية إنسانية حول الصحة والمرض والأسرة والدعوة إلى الله، بعيدًا عن السياسة وهمومها وخلافاتها التي لا تنتهي والتي تقسي القلوب.
تحدثت إليه مع "الشيخ رفعت محمد حسن" ذلك الجندي المجهول، والذي لا أطلبه في معروف أو خير إلا ووجدته أول الملبين. وكذلك كان معي في هذه العيادة لـ"الدكتور ياسر" الأخ الحبيب صانع المعروف الأخ "محمد حسني"، والذي قام بتسجيل هذا الحوار وتفريغه، مع ضيف كريم كان عند "د. ياسر".
مكثنا الأربعة نتحدث حديثًا وديًّا صافيًا، فما أجمل الحديث عن المعاني الإيمانية في الحياة كلها! وخاصة في حالة المرض؛ حيث لا ينفك الإنسان مهما كانت عافيته وصحته أن يزوره المرض والألم بين الحين والآخر؛ فهناك تقصير في الكتابة الحديثة عن المرض وحكمته، وكيف يتعامل معه المريض؟ وكيف يزيده المرض إيمانًا ولا يصيبه بالإحباط واليأس؟ ويا ليت عيادة المريض تعود كما كانت من قبل؛ ففيها العطف والمواساة والأُخوة والسند المعنوي للمريض، ويا ليت الإخوة يعودون كما كانوا يزورون المرضى في المستشفيات بانتظام، يعطون هذا شيكولاته وهذا وردة، وهذا كذا وهذا كذا؛ فكل هذا غاب عن دنيا الدعوة الآن.
والكل يحتج اليوم بتقصيره في كثير من واجبات الدعوة على شماعة التضييق الحكومي، وما علم هؤلاء أن الدعوة إلى الله أكبر بكثير من خطبة في مسجد أو مؤتمر عام، وإن كانت هذه هي أشهر وسائلها فليس بالضرورة أن تكون أقوى وسائلها فاعلية وأثرًا في نفوس الناس.
والآن مع هذا اللقاء الإيماني مع "د. ياسر برهامي"، ونبدأ بسؤاله:
- ماذا كان بك من مرض؟ أرجو أن تشرح ذلك للقراء.
لقد كنت لا أستطيع أن آخذ نفسي بسهولة أثناء النوم، وكان ذلك يؤدى إلى نقص "الأوكسجين" وإلى ارتفاع في ضغط الدم، وشعور مستمر بالإرهاق، ورغبة شديدة في النوم والتعب من أقل مجهود.
وقد تبين بالفحص أن السبب في ذلك كله هو تضخم في حجم اللهاة، وكذلك ارتخاء في سقف الحلق؛ مما استلزم إجراء عملية جراحية لإزالة اللوزتين، وتصغير حجم اللهاة، ومعالجة الارتخاء في سقف الحلق، وذلك باستخدام الليزر، وهذه العملية صعبة للغاية، وتعقبها آلام شديدة جدًا جدًا.
- ولكن ما هي مشاعرك الإنسانية قبل أن تدخل غرفه العمليات مباشرة؟ وأنا أريدك هنا أن تحدثني كإنسان وليس كداعية.
بلا شك أن أهم موضوع فكرت فيه بقوة هو تذكري للموت في هذه اللحظات، وهل يمكن أن أستيقظ لأجد نفسي في يوم القيامة؟ أم أنني سأُعطى فرصة أخرى في الحياة؟!
وفى تقديري أن تجربة التخدير هي تجربة نادرة وأنا أشبهها بالموت الأصغر، وهو أقوى من النوم الذي يُعتبر أيضًا موتة صغرى، ولا يدري الإنسان هل يعود من التخدير إلى الحياة مرة أخرى؟ أم أنه سيصحو ليجد نفسه في يوم القيامة. التخدير هي تجربة نادرة ولا يدري الإنسان هل يعود من التخدير إلى الحياة مرة أخرى؟ أم أنه سيصحو ليجد نفسه في يوم القيامة |
- ولكن ما الذي كان يشغلك بقوة في هذه اللحظات الحساسة في حياة كل إنسان؟
كان يتنازعني أمران: أحدهما: التفكير بقوة في العالم الآخر، وكيف ألقى الله؟ وماذا سيكون موقفي بين يديه سبحانه؟ وكيف سيكون الحساب؟
وفى الوقت نفسه وكإنسان من البشر أجد أنني أفكر رغمًا عني في أسرتي وأولادي، وكيف سيكون حالهم من بعدي؟ وهل سيظلون على الجادة والصلاح من بعدي أم لا؟
والتفكير في الأسرة والأولاد في هذه اللحظات هو أمر بَشَري لا حيلة للإنسان فيه، والداعية في أول الأمر وآخره هو بشر؛ ولكنه بشر يحمل رسالة الإسلام للناس، ويحمل نفسه قبل ذلك على هذه الرسالة.
- هل الداعية كبشر في هذه اللحظات الحرجة يتنازعه شعوران مختلفان: أولها: التفكير في الآخرة والجنة، وفى نفس اللحظات يفكر رغمًا عنه في أولاده وأسرته؟
نعم الداعية بشر كسائر البشر ولذلك يتنازعه الشعوران معًا، ولكنه يقاوم رغبته في التفكير في أسرته وأولاده من بعده، وهذه الرغبة تزيد مع زيادة العمر والسن، ولو ترك نفسه لهذا التفكير قد يشغله عن الطريق إلى الله بدرجة ما.
وعليه أن يستحضر في هذا الوقت أن الله سبحانه هو الذي يحفظ أولاده وأسرته من بعده، وأنه مجرد سبب فقط، وعليه أيضًا أن يعيش بقلبه مع كلمات أبي بكر الصديق العظيمة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". فالعبد من أمثالنا سيموت لا محالة إن عاجلاً أو آجلاً مهما كان شأنه، ومن توكل على وجود عبد فقير فليعلم أنه ميت لا محالة.
أما من توكل على الله وعاش مع قوله تعالى: (فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين) (يوسف:64) فهو المطمئن حقيقة ولا يشغله شيء سوى مرضاة الله وحده.
وهذا نبي الله يوسف -عليه السلام- قد حفظه الله في غياب والده يعقوب -عليه السلام- أكثر مما حفظه أبوه مع وجوده وحضوره؛ ففي وجود والده ورغم حرصه عليه وحَدَبه عليه إلا أنه اختطف من أشقائه، وألقي في البئر وبِيع بثمن بخس دراهم معدودة.
وفى غياب والده وفى غربته ووحدته رفع الله شأنه وجعله عزيزًا لمصر؛ فحينما كان مع والده كان حوله عشرة مِن مَن يريدون أذاه وهم أشقاؤه، وهم الذين حسدوه وألقوه في البئر.
- كيف يكونون أعداءه وهم أشقاؤه؟
كانوا في صورة الأشقاء؛ ولكن الحسد حولهم إلى أعداء في الحقيقة، ورغم أن والده سيدنا يعقوب كان معه ولم يتركه لحظة وكان يقول: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف:13). إلا أنه اختطف وقالوا له: لقد أكله الذئب.
فقد كان يعقوب يخاف على يوسف من مجرد الذهاب لِلَّعِب والنزهة مع أشقائه، ورغم ذلك لم يستطع أن يحفظه، ولكن الله حفظه بعد ذلك رغم غربته وصغره وذهابه إلى بلادٍ بعيدة لا يعرفها، وبعيدًا عن أسرته كلها.
- زوجات الدعاة بشر من البشر، وعادة ما يطلبون من أزواجهم تأمين مستقبل الأولاد، وهذا حدث أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث طلبت زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- منه زيادة النفقة والتوسعة عليهن؛ فما رأيك في هذه المسألة؟
الحقيقة أن طلب تأمين مستقبل الأولاد لم يحدث معي ولله الحمد، ولكنها تحدث كثيرًا مع آخرين، وهذه مطالبة بشرية عادية، ومقتضى البشرية هو طلب التوسع في الدنيا.
ولكن هذا لم يحدث من زوجتي؛ ولكن يحدث هذا من أولادي الذين يطلبون التوسعة عليهم، وأنا حريص على أن يعيش أولادي دون توسعة زائدة، وأن يعيشوا في القصد حتى لو كنت أملك السعة، وذلك تطبيقًا لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
فأنا يمكن أن تكون عندي سَعة أكثر من غيري؛ ولكنني لا أحب أن يتعود أولادي علي الرفاهية الزائدة عن الحاجة، ولو حقق الإنسان كل رغبات أهله وأولاده الدنيوية؛ فإن ذلك قد يتعسهم ويشقيهم في الحياة بعد ذلك، فضلاً عن الآخرة؛ وخاصة إذا تحكمت فيهم هذه الرغبات؛ فإنني مثلاً أحاول مع أولادي في عدم شراء حذاء أو "كوتشي" لأحدهم أغلى من مائة جنيه، وهم يقولون لي: يا أبي أنت لا تعيش الآن في الدنيا.
- هذا الجيل يختلف عن جيلنا الذي عاش حياة متقشفة حتى قبل التزامه، وكانت حياته أكثر جدية، وأنا مازالت أقول لأولادي: كان معي زميل في ثالثة طب وكان ثمن حذائه وقتها مائتين وعشرين قرشًا. وأناقش أولادي وأشرح لهم هذه المفاهيم؛ فهل للقصد أثر تربوي علي الطفل؟
بلا شك له أثر إيجابي، وأنا أظن أن والدي قد ربانا على ذلك، وكم كنت أود أن أكون مثل والدي! ولكنني أكثر تساهلاً معهم، ولكنني أحب أن يتربى الابن على التوازن في الحياة حتى لا يكون أسيرًا لنمط معين في الحياة.
فأنا أعرف أشخاصًا دخلوا المعتقل فلم يتحملوا الحياة فيه؛ لأنهم تعودوا علي نمط معين في الحياة وهم لا يستطيعون التخلي عنه.
- كيف ذلك؟ هل هو التعود علي نمط معين من الطعام والفراش والأثاث ونحو ذلك؟
نعم؛ فهناك من يبكي عندما يُحرَم من عاداته ونمط حياته، الذي أصبح أسيرًا له لا يستطيع فراقه ولا فطام نفسه عنه. إذا حقق الإنسان كل رغبات أهله وأولاده الدنيوية؛ فإن ذلك قد يتعسهم ويشقيهم في الحياة بعد ذلك، فضلاً عن الآخرة؛ وخاصة إذا تحكمت فيهم هذه الرغبات |
- ألم يكن من الصحابة من هو مثل مصعب بن عمير كان غنيًّا ومرفهًا، وعندما أتى وقت الجد كان رجلاً وصار شهيدًا؟
نعم، لقد كان مصعب بن عمير قمة في الرفاهية والغنى والتعطر أو "النزاهة" بلغة العصر؛ ولكن كل ذلك لم يأسره عندما أسلم؛ لأن الإسلام كان أعظم في قلبه من كل أغراض الدنيا كلها، ولذلك أهم شيء في الأمر كله هو التربية الصحيحة للقلوب والجوارح.
ولذلك لا داعي للرفاهية الزائدة؛ لأنها قد تأسر العبد عن الوصول إلى مراد الله -سبحانه وتعالى- منه.
- من هو أول شخص رأيته قبل العملية وبعدها؟ وماذا قلت بعد إفاقتك من التخدير؟
الدكتور جمال شقيقي كان معي قبل وأثناء وبعد العملية، وهو ليس مجرد أخي في النسب؛ ولكنه قبل ذلك وبعده أخي في الله وحبيبي.
والحمد الله أخر شيء قلته هو أذكار النوم، أما أول شيء قلته بعد إفاقتي لم أعرفها؛ ولكن د. جمال قال لي: لقد قلت بعد إفاقتك مباشرة: "لا إله إلا الله".
- هل تفكرت في هذه اللحظات في مستقبل دعوتك؟ وهل أديت واجبك نحو إنشاء أجيال متعاقبة من الدعاة الصالحين؟ أم شعرت بالتقصير في هذا الأمر في هذه اللحظات؟
أنا لا أعفي نفسي من التقصير؛ ولكنني أشعر بالاطمئنان لمستقبل الدعوة لأن الله هو الذي يحفظها وذلك بفضل الله ورحمته وهو أرحم الراحمين.
والحمد لله هناك أجيال متعاقبة من الدعاة في كل مناطق إسكندرية، وكذلك خارجها علي نفس المنهج قادرون علي تحمل هذه المسئولية.
- هناك بعض الدعاة يهتم بأن ينتقل بدعوته من مكان إلي مكان دون أن يربى جيلاً من الدعاة يحمل رسالته من بعده، وبعضهم يخشى من ذلك فلا يدرب أحدًا، ولا يترك فرصة للآخرين ويستأثر بالمنبر وحده؛ فما رأيك؟
هذا الداعية علي خطر عظيم؛ فالداعية الذي يحرص علي أن تبقى الدعوة مستمرة بذاته فهو في الحقيقة يدعو إلي نفسه وليس إلي الإسلام، والدعوة شرطها الإخلاص، وتأمل قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) (يوسف: الآية108). فهو يدعو إلي الله ولا يدعو إلي نفسه.
وبعض الدعاة يدعو في الحقيقة إلى نفسه ولا يدعو إلى الله، ويجمع الناس حول شخصه، وإذا فعل ذلك فإن الدعوة تمرض إذا مرض، وتموت إذا مات، وتختفي إذا اختفى، وتفتن إذا فتن.
- بعض الدعاة ينظر إلى هذا الأمر بأنانية ظاهرها حب الدعوة الكامل، وباطنها الأثرة؛ فلا يعطي مساحة لتلاميذه؛ فما رأيكم في هذا الداء؟
هؤلاء الذين يفعلون ذلك لا يفهمون حقيقة الأمور لا بقلوبهم ولا عقولهم، هؤلاء التلاميذ إضافة له وليس خصمًا، وعلى الداعية أن يسعد إذا تفوق تلميذه عليه.
- هل هناك اليوم من الدعاة من يقول لتلميذه كما قال الراهب للغلام: "أنت اليوم أفضل مني"؟
هذه قليلة اليوم؛ ولكن المهم أيضًا أن يحب الداعية من هو أفضل منه حتى تتكون أجيال متتابعة من الدعاة.
- هل هناك جديد في دعوة المدرسة السلفية بالإسكندرية؟
لا بد أن نهتم جميعًا اليوم اهتمامًا كبيرًا بالمعاني القلبية والإيمانية أكثر من ذي قبل، لقد خضنا معركة كبيرة لترسيخ الهدي والهيئة الإسلامية الظاهرة في المجتمع المصري، وكان المجتمع قبل ذلك لا يقبل بهذه الهيئة وينكرها؛ ولكن الوضع الآن تغير؛ فقد استقر الهدي الظاهر بين المسلمين وأصبح شائعًا ومألوفًا بين الناس.
والآن علينا أن نخوض معركة أخرى أهم؛ هي معالجة الآفات الباطنة والأدواء القلبية.
- هل تعتقد أن باطن الإثم يحتاج إلي تركيز المربين والدعاة داخل الحركة وخارجها، أم أن ظاهر الإثم هو الأهم؟
الجزء الأكبر والأعظم من الخلافات بين الحركات الإسلامية مردها إلي باطن الإثم في الأصل والأساس؛ ألم يقل الله: "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم"؟ وإذا كان هذا قد حدث من قبل مع أتباع الرسل من قبل، فمن الطبيعي أن يحدث ذلك اليوم بين الحركات الإسلامية؛ فعلينا اليوم أن نركز على معالجة باطن الإثم كما تقول.
لقد قطعنا شوطًا كبيرًا في معركة الظاهر، واليوم علينا أن نقطع شوطًا أكبر منه في معركة أمراض الباطن والقلب التي تفشت بين العوام والخواص، مع عدم إغفال الاهتمام بالهدي الظاهر والحفاظ على ما تحقق من انتصارات للحركة الإسلامية فيها. بعض الدعاة يدعو في الحقيقة إلى نفسه ولا يدعو إلى الله، ويجمع الناس حول شخصه، وإذا فعل ذلك فإن الدعوة تمرض إذا مرض، وتموت إذا مات، وتختفي إذا اختفى، وتفتن إذا فتن |
- ولكن كيف تتم معالجة باطن الإثم في الحركة الإسلامية وخارجها مع غياب الدعوة والتربية في المساجد في مصر؟ فهل تصلح القنوات الفضائية أو مواقع النت لتحل ولو جزئيًّا بدلاً من المسجد؟ أم أن المسجد له خصوصية خاصة في التربية لا تتوفر لمثله؟
أقول دائمًا إن الذين تربوا علي النت أو الفضائيات أو على القناعات الشخصية هو هذا الجيل الذي يمكن أن تخرج منه الأفعال غير المنضبطة بالشرع، أو المدركة للواقع ويمكن أن تظهر فيه الأفكار المنحرفة.
أما الذين تربوا في المساجد فهم أفضل نوعية إسلامية موجودة؛ ولذلك فإنني أطالب دومًا بأن تأخذ المساجد أكبر مساحة في التربية الإسلامية.
- أنت عشت حياتك الدعوية والتربوية كلها في المساجد؛ فهل للمسجد أثر خاص على القلب لا يحدث للعبد المسلم في أي مكان أخر؟
نعم؛ لأن المسجد ببساطة هو أحب الأماكن إلى الله، والذي يرتبط بالمسجد يكون داخلاً في السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل قلبه معلق بالمساجد)؛ فكيف لا يكون للمسجد الأثر الهائل الذي نعرفه جميعًا في إصلاح النفس الإنسانية؟!
- ولكن ما هو الأثر "السحري" للمسجد علي النفس الإنسانية والذي يندر أن يوجد في مكان آخر؟
لا أدري كيف يؤثر المسجد بالضبط في النفس الإنسانية؛ ولكن ما نعرفه جميعًا أن إنسانًا يمكن أن يتربى على الكتب ولكنه يصبح سيئًا، وآخر يمكن أن يتربى على النت ويصبح كذلك سيئًا، وثالث يمكن أن يتربى على القنوات الفضائية ويصبح كذلك سيئًا، ولكن المسجد هو مكان الصلة الحقيقية والعميقة بين العبد وربه، وهو مكان العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى، وهو يعطي النفس سكينة لا تحصل له في أي مكان آخر.
وهو في نفس الوقت مكان الصحبة الصالحة؛ فالصحبة الصالحة والاجتماع على الخير لا تحصله من نت أو قناة فضائية أو نحو ذلك مثل ما تحصله من المسجد.
وكذلك هو مكان التعلم والتعليم والتوجيه والتربية المباشرة دون وسيط؛ فإذا فقدت هذه المعطيات فمن الصعب تعويضها في مكان آخر.
- هل تعتقد أن جيل السبعينات في الحركة الإسلامية كان مميزًا لأنه تربى كله في المساجد؟
نعم، أظن ذلك.
- هل تختلف التربية الإسلامية في الأزهر بعد أن تركوا دراستهم السابقة في المساجد وبجوار أعمدتها عنها الآن؟
أظن ذلك؛ فالمحاضرة التي يقولها الشيخ في المسجد قد تكون هي نفس المحاضرة التي يقولها في قاعة من قاعات الجامعة، ولكن الأثر مختلف تمامًا؛ لأن المسجد مرتبط بالعبادة فهو يصلي قبل المحاضرة، ويصلي صلاة ثانية بعدها، والعلم والتعليم الديني بالذات إذا لم يرتبط بالعبادة في حس المدعو وشعور المبتدئ يكون مجرد علم بلا عمل ولا طاعة، وهي أشبه ما تكون بأي محاضرة دنيوية يحضرها الطالب للامتحان والنجاح في الامتحان والتخرج فقط.
ولكن الشاب حينما يذهب للمسجد فهو يرتبط أولاً وقبل كل شيء بعبادة الله أصلاً، وهو يعتبر التعلم رسالة يعبد بها ربه ويتقرب بها إلي الله.
- من هو أخلص تلاميذك؟
هذا سؤال صعب، وقد أنسى بعضهم فيحزن، وقد يكون فتنة لمن ذكرته؛ فالأولي عدم الإجابة.
- تلميذ من تلاميذك كنت تأمل فيه خيرًا كثيرًا ولكنه فارق الحياة.
الأخ "سعيد معتمد" من إخوة مطروح، والأخ "علاء مقبل"، وقد أصابهما السرطان وهما شابَّان، وهما من أفاضل الإخوة الذين تربوا تربية جيدة وصالحة، وكان لهم أثر كبير في الدعوة، وإلي الآن لا أستطيع تعويضهما.
- بمناسبة السرطان الذي أصاب الكثير من المسلمين الآن؛ ألا يقاس مريض السرطان على المبطون وعلى الطاعون فيلحق بالحديث الشريف الذي يعتبر هؤلاء شهداء؟
أولاً: هذان الأخوان كان عندهم سرطان في البطن، وهذا ينطبق عليه حديث: (والمبطون شهيد). أنا لا أقصد السرطان في البطن فقط؛ ولكن أي سرطان الآن: العلة التي تجمع مريض السرطان بالطاعون أو المبطون واحدة فيلحق الأول بالآخر، ولعل الرسول -صلي الله عليه وسلم- أراد بالمبطون الأمراض الباطنة المستعصية مثل السرطان ونحوه؛ مثل "اللوكيميا" ونحوه من سرطانات الدم؟
أعتقد -والله أعلم- أن المبطون هنا هو كل مريض بالبطن، وأظن أن ذلك هو التفسير الصحيح المذكور عند السلف، وأنا لا أحب التعدي أو القياس في تفسير هذا الحديث؛ فأنا أحب الوقوف عند التفسير السلفي في هذه الأمور، وهو أمر غيبي لا يصح فيه القياس، ولكن الأدلة العامة في البلاء وفضله قد تغنينا عن هذا القياس.
- ألم يتم تحريم الأفيون والحشيش قياسًا على الخمر؟
نعم؛ لأن العلة معلومة.
- أما العلة الجامعة للطاعون مع السرطان هي شدة الألم وقسوة المرض وأنه لا يترك العبد حتى يقتله، وكذلك جهد البلاء الذي استعاذ منه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
أنا لا أرى أن هذا الأمر بالذات يدخل فيه القياس، والله أعلم.
- تعاملت كثيرًا مع الآلام كطبيب؛ فهل هذه أول مرة تتعامل معها كمريض؟
لا؛ فقد تعاملت معها كمريض كثيرًا؛ فقد كانت عندي حصوة في الكلى، وكانت تسبب لي مغصًا شديدًا، كان ألمًا شديدًا
- المغص الكلوي بالذات يشعر المريض أنه ذليل لله.. ويشعره بقوله تعالى: "وخلق الإنسان ضعيفا". أليس كذلك؟
نعم والله، وأنا مرة كنت أتحدث مع أخي وصديقي د. أحمد حطيبة وهو كان زميلي في الفصل في الثانوية؛ فقلت له: كم نقطة ضعف في الإنسان؟ كل خلية في الإنسان فيها نقطة ضعف.
والإنسان يحتاج للألم ويستفيد منه، ولو فقد الإنسان الألم سيصبح في خطر عظيم؛ فقد يضع يده في الكهرباء ويموت دون أن يشعر، أو يمسك بأشياء ساخنة تحرقه دون أن يشعر.
وكما أن البدن يحتاج للألم لكي يحيا؛ فإن القلب يحتاج للألم كذلك حتى يحيا، وإلا هلك وفسد دون أن يشعر العبد بذلك.
- وما هو ألم القلب الذي يحييه ويحفظه؟
القلب من دوام وامتداد واستمرار النعم يظن بعد فترة أن هذه النعم هي حق مكتسب له، ويقول بلسان حاله: (هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) (فصلت:الآية50). فهو يقولها بحاله وليس المهم أن يقولها بلسانه؛ فهو ليس بالضرورة يصل إلى درجة الكفر والعياذ بالله.
ولكن القلب يظن أن العافية كلها ستدوم له، وأن شبح الموت بعيد جدًّا، وأن كل الذي ذكره القرآن من أنواع العذاب كأنه خيال، والألم فقط هو الذي يعيده إلى ربه ويعيده أيضًا إلى صوابه، ويعرفه بحقيقة ضعفه وعجزه. اليوم جلسة الحوار مفقودة تمامًا في الأسرة، وإذا جلسوا سويًّا فهم لا يتكلمون مع بعضهم ولكنهم ينصتون لـ"التلفزيون" أو "الكمبيوتر" |
- يقول بعض السلف: إن سيدنا أيوب هو حجة الله على المرضى، وسيدنا يوسف هو حجة الله على المسجونين في كل زمان ومكان؛ فما رأيك في هذا القول؟
نعم؛ فالمرض لم يُستثن منه أحد من الخلق حتى الأنبياء وهو دليل على أنهم عباد لله يصبيهم المرض والألم، وقد كان سيدنا أيوب عليه السلام يعاني من الألم والعذاب (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (صّ:الآية41)؛ فقد كان يتألم ألمًا شديدًا، وكذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوعك ويتألم كما يتألم رجلان من أصحابه، وكان يصيبه الصداع النصفي "الشقيقة" بالألم الشديد.
- علمت أنك تألمت ألما شديدًا في مرضك الأخير بعد العملية الجراحية. أليس كذلك؟
بلى؛ لقد أصابني ألم شديد جدًا بعد العملية وكان الألم يأتيني كلما بلعت ريقي، هذا يحدث كل لحظة؛ فالألم في الحلق صعب جدًا، وقد تذكرت وقتها نعمة البلع السليم وتذكرت قوله تعالى: (وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ) (المزمل: من الآية13). فلم أكن أشعر قبل اليوم قيمة نعمة البلع التي ما قدرناها حق قدرها وما شكرناها حق الشكر.
فلن يعرف أحد قيمة هذه النعمة إلا إذا تألم في كل بلعة يبلعها لريقه فضلاً عن طعامه وشرابه.
- تعاملت مع الآلام كطبيب كثيرًا، والآن تعاملت مع آلام شديدة في حلقك كمريض؛ ما الفرق بين الحالتين؟
أحيانًا الطبيب منا يسعد أن مريضه قد تحسن وقد شُفي من مرضه، ويسعد بشطارته ومهارته الطبية، ويظن أنه قد صنع بذلك شيئًا عظيمًا.
وفي الحقيقة لو تفكر في نفسه قليلاً لأدرك أنه لا يملك شيئًا في الحقيقة؛ فهو لا يستطيع أن يجعل الهواء العادي يدخل رئتيه بسلاسة وسهولة، حتى التئام الجروح فهي بإذن الله، فلا يلتئم جرح إلا أن يأمر الله الخلايا بالالتئام، وقد جربت ذلك عمليًا في حالتي؛ فقد أجريت لي العملية بالليزر وكان الجراح أستاذًا كبيرًا وأخذت مضادات حيوية كثيرة، ورغم ذلك فإن الجرح لم يلتئم حتى الآن، والبلع فيه صعوبة كبيرة؛ لأن الله لم يأذن بعد للخلايا بالالتئام مرة أخرى.
- ما هي أشد حالة آلام رأيتها وأنت طبيب؟
لقد رأيت عدة حالات احتضار من أقاربي ومن غير أقاربي، والاحتضار لحظة صعبة جدًّا على العبد، وأذكر أن والد أحد الإخوة كان مريضًا، وكان ابنه يطلب مني متابعة حالته الصحية، وكانت حالة هذا الرجل صعبة جدًّا وحرجة للغاية، وكان في أيامه الأخيرة، وكان يردد دائمًا كلمة "آه" من شدة الألم، وبعدها لم يستطع أن ينطق بكلمة "آه" من شدة التعب والألم والوهن؛ فهناك مرضى يصلون إلى درجة لا يستطيعون معها التعبير عن آلامهم.
- ما الحكمة في أن يمرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويشتد عليه المرض ويوعك كما يوعك رجلان، مع أن الله قادر على أن يعافيه من ذلك؟
نعم، هناك حكمة في ذلك فهو إثبات لبشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو دعوة لعدم الغلو في الأنبياء، ودعوة لوحدانية الله –سبحانه-؛ فهو المتفرد بالكمال، وهو يفيدنا كذلك في التأسي بهم في الصبر والرضا ورجاء الأجر والثواب.
وكل ذلك يعلمنا التأسي بهؤلاء الرسل في تحقيق التوحيد أثناء مرضهم مع اتخاذ الأسباب للتداوي، وأتباع الرسول يرونه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا دفعًا لمرض إلا بإذن الله، ويرونه يتخذ أسباب التداوي فلا يهملون توكل القلب ولا عمل الجوارح بالأسباب.
- هل "الروتين" الدعوي الثابت للداعية يعطي درسًا هنا ويخطب الجمعة هناك، ويجلس مع تلاميذه في وقت كذا. هل هذا "الروتين" اليومي والأسبوعي والحياتي يضر الداعية على المدى البعيد؟
بلا شك، إذا استمر هذا "الروتين" مع الداعية سيحوله من داعية يشعر بما يقول إلى آله تردد مادة علمية، وقد يشغله ذلك "الروتين" عن إصلاح نفسه ورتق عيوبها، وأن يخلو بنفسه يعاتبها وينصحها، ويخلو بربه ويعطي وقتًا لإصلاح عيوب أسرته القريبة؛ لأن هدايتهم في حكم فرض العين عليه.
- بعض الدعاة وكثير من أبناء الحركة الإسلامية يظنون أن كل ابتلاء أو بلاء يقع عليهم هو رفع للدرجات، ولا يلتفتون إلي مسألة تكفير السيئات؛ فما رأيك في هذه القضية؟
علي العبد أن يسيء الظن بنفسه ويحسن الظن بالآخرين؛ فعندما يحدث له بلاء عليه أن يستحضر قول الله -تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران:الآية165).
فيجب على العبد ألا يزكي نفسه وإلا يرفع نفسه، أو يظن أنه بغير سيئات أو ذنوب.وإلا وقع في العجب والغرور المذموم.. ومن رضي عن نفسه فليعلم أن الله غير راض عنه.
وعلى الدعاة أن يتواضعوا لله رب العالمين؛ لأن بحث الإنسان عن ذنوبه ومعاصيه وهناته هو مفتاح العلاج والإصلاح الحقيقي داخل الدعوة نفسها .
- ما هو الدعاء الذي دعوت به كثيرًا أثناء مرضك؟
هو دعاء سيدنا يونس: لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء: من الآية87).
- لماذا لا تذكر لك حسنة من حسناتك تدعو بها؛ كما دعا الثلاثة الذين آووا إلى الغار؟ أم أنك اعتبرت أن هدي سيدنا يونس أعلى من هدي هؤلاء الثلاثة؛ حيث إنه كانت له حسنات كثيرة ولكنه تذكر ذنبه وتقصيره؟
نعم، وعبد الله بن مسعود كان يقول: "عدوا سيئاتكم وأنا ضامن لكم ألا يضيع عليكم شيء من حسناتكم". فعندما ننظر إلى سيئاتنا أكثر وأكثر؛ فإن حسناتنا لن تضيع.
- لماذا لا يصبح أولاد الدعاة مثل آبائهم في سلك الدعوة والتربية؟
ذلك بسبب عدم التوازن في حياة الدعاة؛ فأكثرهم ينشغل عن بيته وأسرته، وهذا أصبح سمة عامة في الحياة المعاصرة كلها وليس فقط الدعاة؛ فقد فقدت جلسة الحوار بين الأب وأبنائه.
وعندما مرضت هذه المرة وجلست عشرة أيام في البيت وجدت أولادي رغم مواظبتهم على الصلاة في وقتها وفي المسجد، يحتاجون إلى الكثير والكثير من الاهتمام والمتابعة.
وقد قلت لهم: يجب أن تكونوا ملتزمين بالإسلام ظاهرًا وباطنًا أصدق مما أنتم، وأن يفكر كل واحد منكم وهو واقف أمام الله فيما يردده من آيات وذكر، وأن يطيع القرآن دون أمر مني أو أن أقول له أنا: افعل كذا ولا تفعل كذا. وأن يكون هدفه في الحياة مختلفًا عمن حوله، وهذه الجلسات التي جلست فيها مع أولادي في مرضي ينبغي أن تتكرر بانتظام واستمرار؛ فكل الأسر في حاجة إليها.
ولولا جلسات الآباء مع الأبناء ما حكى يوسف على أبيه -عليهما السلام- الرؤيا المشهورة.
وهذا إبراهيم عليه السلام عرض على ابنه إسماعيل قصة الذبح في جلسة خاصة بينهما.
واليوم جلسة الحوار مفقودة تمامًا في الأسرة، وإذا جلسوا سويًّا فهم لا يتكلمون مع بعضهم ولكنهم ينصتون لـ"التلفزيون" أو "الكمبيوتر" ومعظم الآباء مشغولون بشكل زائد عن الحد في طلب العيش حتى ولو كان حلالاً، وكثير من الدعاة كذلك مشغولون أكثر من الحد العادي بالدعوة تاركين أولادهم نهبًا لشياطين الإنس والجن، مع أن دعوتهم لأولادهم هي فرض عين عليهم.
وإلى هنا ينتهي هذا الحوار الإنساني مع د. ياسر برهامي، وبعدها فقد ودعناه بدعوتنا له بالشفاء العاجل والعافية التامة في الدنيا والآخرة.