السؤال:
ما حكم العمليات الاستشهادية؟ هل تُعد من الجهاد بالنفس، أم إلقاء بالنفس للتهلكة؟ فإن كان الجواب بالإيجاب فكيف نرد على أولئك الذين يجحدونها؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من تحرير محله وبيان أنواع ما يسمى بالعمليات الاستشهادية أو الانتحارية عند من يمنعها؛ وذلك أنها تشمل عدة صور:
منها: أن ينغمس المسلم بسلاحه وسط الكفار مقاتلاً لهم؛ لإحداث نكاية بهم، وقتل أكبر عدد منهم، أو لتقوية قلوب المسلمين وإرهاب عدوهم، أو لتحقيق مصلحة من مصالح الجهاد كفتح حصن أو نحوه، وهو يغلب على ظنه أنه ُيقتـل، فهذه الصورة لا يكاد يُختلف فيها من جهة السبب في القتل أو مباشرته؛ إذ لا يُقتل بسلاح نفسه، وإنما الاختلاف فيها من جهة تحقيق المصلحة أو حصول المفسدة.
وكذا من جهة المسائل الأخرى الآتية من جهة مراعاة عقد الهدنة أو الأمان، وكذا مسألة النية والراية وغيرها، فلا يجوز نقض العهد سواء بهدنة أو أمان بالقيام بمثل هذه الأعمال في بلاد لها عهد مع المسلمين، أو في وسط كفار دخلوا بلاد المسلمين بأمان ولم يدخلوا بقوة السلاح كمحتلين أو مغتصبين، ولا يجوز كذلك في بلاد دخلها مسلم أو مسلمون بأمان؛ إذ أن جمهور العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم يرى أن عهد الأمان من الكفار لمسلم هو عهد أمان منه لهم؛ لأن المشروط عرفًا كالمشروط لفظًا.
ولا يجوز القيام بهذه العمليات بطولة وشجاعة دون نية إرادة وجه الله -تعالى-، ونصرة دينه، وإعزاز المسلمين، وإرهاب الكافرين، فلقد كان يفعل مثلها الطيارون اليابانيون مع الأمريكان، وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر، ولكن فعلوها بطولة ووطنية، فلا يُسمَّى من فعل مثل ذلك شهيدًا، وكذلك من فعل مثل هذه العمليات تحت راية عمية؛ لعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ) (رواه مسلم).
وقال الغزالي في الإحياء (7/26): "لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل، وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضًا له ذلك في الحسبة".
وقال القرطبي في تفسيره (5 /363): "اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة، وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل؛ لأن مقصوده واحد منهم.
وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أنه سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل، ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرًا ينتفع به المسلمون فجائز أيضًا، وكذلك يوم اليمامة لما تحصَّنت بنو حنيفة بالحديقة؛ قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة، وألقوني إليهم، ففعلوا، وقاتلهم وحده، وفتح الباب.
قال القرطبي: ومن هذا ما روي أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرًا محتسبًا؟ قال: (فَلَكَ الْجَنَّةُ)، فانغمس في العدو حتى قتل".اهـ.
وقال ابن حجر في الفتح (8 /185): "وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع، ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين، والله أعلم".
وقال محمد بن الحسن في السير الكبير (1/163): "لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده؛ لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه؛ لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ)(التوبة: 111) الآية".
الصورة الثانية: فهي أن يركب سفينة فيها جنود الكفار، أو يحتل فندقًا فيه مقاتلو الكفار، ويضع فيه المتفجرات ونحو ذلك، ويعلم أنه سيُقتل ضمن من يُقتل، وكذلك صورة من يلتف بحزام ناسف أو يقود سيارة ملغومة فيفجرها في معسكر الكفار أو مبانيهم.
فهاتان الصورتان وإن فرَّق بينهما البعض إلا أنهما في الحقيقة صورة واحدة، وهو أنه يقتل بسلاح نفسه فهذه محل الخلاف؛ حيث منعها بعض العلماء احتجاجًا بأحاديث النهي عن قتل النفس، ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا).
ومنهم من منعها لأجل ما يترتب عليها من مفاسد لا لأجل صفة القتل، ومن هؤلاء فضيلة الشيخ الألباني -رحمه الله- وكذا الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-، ومنهم من أجازها بشروط تحصيل المصلحة الأعظم والنية الصالحة وتحت الراية الإسلامية، واحتجوا بحديث الغلام في أصحاب الأخدود حيث قال للملك: (إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي...)، وفى الحديث أنه فعل ذلك فقتله، (فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ) (رواه مسلم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِصَّةَ أَصْحَابِ الأُخْدُودِ وَفِيهَا أَنَّ الْغُلامَ أَمَرَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لأَجْلِ مَصْلَحَةِ ظُهُورِ الدِّينِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ أَنْ يَنْغَمِسَ الْمُسْلِمُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ, فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ كَانَ مَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ الَّتِي لا تَحْصُلُ إلا بِذَلِكَ وَدَفْعِ ضَرَرِ الْعَدُوِّ الْمُفْسِدِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، الَّذِي لا يَنْدَفِعُ إلا بِذَلِكَ أَوْلَى".
فقد سمى شيخ الإسلام ما فعله الغلام (قتل نفسه) وداخلاً كأصل في الوعيد الشديد الذي هو أغلظ من قتل الغير، ومع ذلك جاز للمصلحة الراجحة، وفي صحيح مسلم: وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَطَع أَكْحَلَهُ فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ، قَالَ سَلَمَةُ فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُونَ بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ قَتَلَ نَفْسَهُ قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِى فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟) قَالَ قُلْتُ: نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ، قَالَ: (كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ).
قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم (5/418) في شرحه لحديث سلمة بن الأكوع من باب غزوة ذي قرد وغيرها: "وفيه اتباع سلمة وحده للمشركين، وفيه مقتل عامر بن الأكوع في غزوة خيبر بسيف نفسه، ومنها إلقاء النفس في غمرات القتال، وقد اتفقوا على جواز التغرير بالنفس في الجهاد في المبارزة ونحوها، ومنها أن من مات في حرب الكفار بسبب القتال يكون شهيدًا سواء مات بسلاحهم أو رمته دابة أو غيرها أو عاد عليه سلاحه كما جرى لعامر".
فلما كان قصد عامر قتل (مرحب) اليهودي الكافر، ولكنه أصابه سيف نفسه؛ كان شهيدًا، ومن قام بهذه العمليات لا يقصد قتل نفسه، بل قصد قتل الكفار، وإن كان يُقتل بسلاح نفسه، ولقد أكذب النبي -صلى الله عليه وسلم- من التفت إلى صفة القتل دون قصد المقاتل، ولم يجعله قاتلاً لنفسه، بل جعله شهيدًا، فالعبرة بقصد المقاتل ونيته، وإن كانت الصورة أنه قتل نفسه؛ لأنه لم يعاجل ربه بنفسه، ولم يضجر، ولم يسخط على قضائه، بل غرضه فداء دينه وأمته بنفسه، وقد سبق النقل عن النووي في فوائد هذا الحديث أنه شهيد ولو عاد عليه سلاحه.
قالوا: ومما يدل على أنه لا فرق بين المباشرة والتسبب ما ذكره أهل العلم فيما إذا احترقت سفينة؛ هل يلقي الرجل بنفسه ليغرق أم لا؟
قال في المدونة: "قال سحنون لابن القاسم: أرأيت السفينة إذا أحرقها العدو وفيها أهل الإسلام؛ أكان مالك يكره لهم أن يطرحوا أنفسهم في البحر؟ وهل تراهم قد أعانوا على أنفسهم؟ قال: بلغني أن مالكًا سئل عنه فقال: لا أرى به بأسًا، إنما فروا من الموت إلى الموت، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أيما رجل يفر من النار إلى أمر يعرف أن فيه قتله؛ فلا ينبغي له إذا كان، إنما يفر من موت إلى موت".
وقال ابن قدامة في المغني: "وإذا ألقى الكفار نارًا في سفينة فيها مسلمون فاشتعلت فيها، فما غلب على ظنهم السلامة فيه من بقائهم في مركبهم أو إلقاء نفوسهم في الماء فالأولى لهم فعله، وإن استوى عندهم الأمران فقال أحمد: كيف شاء يصنع، قال الأوزاعي: هما موتتان، فاختر أيسرهما".
فهذا يدل على أن أهل العلم لم يفرقوا بين أن يموت بفعله أو فعل غيره، ولم يعولوا على هذا الوصف وجعلوه مناط الحكم، وقالوا: وغلبة الظن تقوم مقام العلم في الأحكام، فلا فرق بين صورة الانغماس التي يغلب أن يقتله الكفار، وبين صورة التفجير التي يعلم أنه يقتل فيها؛ لأن غلبة الظن تقوم مقام العلم.
وممن أفتى بجواز ذلك الشيخ/ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية حين قال في فتاويه (207/6ـ رقم 1479): "جاءنا جزائريون ينتسبون إلى الإسلام يقولون: هل يجوز للإنسان أن ينتحر مخافة أن يضربوه بالشرنقة (حقنة مخدرة ينتزعون بها الاعترافات)، ويقول: أموت أنا وأنا شهيد، مع أنهم يعذبونهم بأنواع العذاب؟
فقلنا لهم: إذا كان كما تذكرون فيجوز، ومن دليله: "آمنا برب الغلام"، وقول بعض أهل العلم: إن السفينة...إلخ، إلا أن فيه التوقف من جهة قتل الإنسان نفسه، ومفسدة ذلك أعظم من مفسدة هذا، فالقاعدة محكمة، وهو مقتول ولابد". اهـ.
ونحن نرى أن الصواب تحريم قتل النفس خوفا من التعذيب، بل يصبر ويحتسب، والله المستعان، أما في مسألة المصلحة للمسلمين ودفع المضرة عنهم؛ فهي مسألة اجتهاد سائغ لا ينكر فيه على مجتهد ولا مقلد لمجتهد ولا مفتٍ.
وأما أهل العلم الذين يمنعون من هذه العمليات لأجل مضرتها الأشد فالحقيقة أن الخلاف هنا في تحقيق المناط، أعني أنه هل هذه الأمور فيها المصلحة الراجحة أم مفاسدها أعظم؟
وهذا ينبغي إدراك الاختلاف فيه بين بلد وبلد، وحالة وأخري، وتقدير المصالح والمفاسد على ذلك لأهل العلم من أهل السنة في المحِل الذي تقع فيه هذه الأمور، مسترشدين بأهل الخبرة العسكرية والسياسية في محلتهم، وإن عدم ذلك فالأصل المنع؛ لأن المفسدة في قتل النفس متيقنة والمصلحة مظنونة.