كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (ق:19)، بهذا الوصف الوجيز البليغ أخبرنا الله عن الموت وسكرته، وعن الإنسان وحيدته.
ولا شك أن الموت بكل ما يحمله من مشاهد الاحتضار التي يعاني من سكرتها المحتضر، ويعجز المحيطون به عن الدفع عنه، ثم مشاهد الموت حينما يغيب الميت عن حياتنا، ولا يملك أن يعبر عن نفسه، ولا يعرف حال أهله من بعده، مشاهد تملأ القلوب إجلالاً وخشية، وتحض النفس على التفكر والتأمل، ولكن الشيطان يحاول دائمًا أن يصرف الناس عن التأمل والتدبر النافع لهم في أمر آخرتهم.
وقد توفي أمس الكاتب الروائي "نجيب محفوظ" عن عمر يناهز الـ 95 عامًا -اللهم لا تردنا إلى أرذل العمر- تاركًا وراءه تركة تحسده عليها "شياطين الجن" مِن هذا الركام الهائل مِن روايات الجنس والعهر، والمسكرات!
ومما يزيد الطين بلة أن معظمها قد تحول إلى أفلام سينمائية يفنى مؤلفوها، ومنتجوها، وممثلوها.. وتبقى أوزارها (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (النحل:25).
وتبقى مصيبته الكبرى، وداهية دواهيه رواية "أولاد حارتنا" -التي منح عليها جائزة نوبل- والتي لا يزال أتباعه ومداهنوه يفتخرون بها! والتي كتبها؛ ليكرس فيها ضلالة استغناء الإنسان المعاصر عن فكرة الإله "الذي رمز له بالجبلاوي"، بالعلم "الذي رمز له بعرفة"، مرددًا قول أسياده وكبرائه من فلاسفة الغرب الذين يرون أن الإله مجرد فكرة كاذبة ادعها المصلحون -الذين هم الأنبياء عندنا-؛ لكي يصلحوا بها العالم، وكان هذا هو الحل المثالي قديمًا، وأما بعد تطور العلم الحديث، ووصول الإنسان لكل ما يصبو إليه من أمن ورفاهية على وجه الأرض؛ فلا حاجة لنا بفكرة الإله!
وهذا الرمز في الرواية لم يخفَ على أي متأمل لها؛ مما دفع الأزهر إلى منع تداولها بعد نشرها على حلقات في جريدة الأهرام في حقبة الستينات.
وكذا جاء ذلك التحليل في أكثر من دراسة حول أدب "نجيب محفوظ"، بعضها حظي بتقريظ "نجيب محفوظ" نفسه.
وقد يقول قائل: ولكن الرجل قد تاب!
ويعلم الله أن توبة التائب مهما كان جرمه وإثمه هي الهدف الذي نسعى إليه، وليس إلقاء الناس في دائرة الكفر والباطل، ولكن الذي حدث من "نجيب محفوظ" هو مجرد الامتناع من نشر الرواية إلا بإذن الأزهر، وهذه ليست توبة، بل مدارة للأزهر، ولعموم المسلمين.
ثم إنه قد أعاد صياغتها في رواية "الحرافيش" التي قدم فيها ثلاث مجتمعات صغيرة:
الأول: مجتمع المساجد، ولكي يضفي عليها طابع التخلف اقتصر على مساجد الأضرحة والأولياء.
الثاني: مجتمع الخمارة.
الثالث: مجتمع المقاهي الذي جعله المجتمع المثالي أمام تطرف المجتمعين الآخرين، مع إسقاطات فلسفية كثيرة تنقض فكرة الإيمان أصلاً وموضوعًا، ثم إن "نجيب محفوظ" سيظل هو "نجيب محفوظ" حتى لو صح الفرض الجدلي بتوبته -وهو لم يصح-؛ فسيبقى أنصاره وتلاميذه، بل وللأسف ومداهنوه –وبعضهم من الإسلاميين- يَثنون على ثلاثيته التي ملأها عربدة وعهرًا!
وعلى سلسلة رواياته الإلحادية التي أبدى فيها شكًا كبيرًا في حقائق الدين، على ألسنة أبطال رواياته، وإن كان لم ينفِ عن نفسه فعليًا في كثير من حواراته، حتى صرح بأنه اضطر إلى الإيمان بقلبه تاركًا عقله في شكه كما هو!
وعمومًا لقد اغتر هذا الرجل بالعلم وبما قدَّم العلم الحديث للبشرية من رفاهية متناسيًا أن الله هو خالق الكون، وهو الذي أودع فيه هذه الأسرار، وهو الذي هدى البشر إليها متى شاء، وكيف شاء!
ونريد أن نسأله بعض الأسئلة -ونحن نعلم أنه لا يملك الإجابة-، ولكن لعل الذين تمنوا مكانه بِالأَمْسِ يتوبون، ولا يتمنون مكانه اليوم:
- قضى "نجيب محفوظ" السنوات الأخيرة من عمره، وهو لا يستطيع أن يمسك بالقلم، الذي طالما كتب به ما كتب، هل كان يملي بعض الحوارات المبعثرة على بعض الببغاوات ليكذبوها باسمه في الصحف؟! فهل أغنى عنه عرفة شيئًا؟!
- أمضى "نجيب محفوظ" السنوات الأخيرة من حياته في آلام المرض والشيخوخة لا يعبأ به الناس، ولا بآلامه إلا حينما تدق الطبول الإعلامية تذكر خبر دخوله المستشفى أو خروجه منها؛ فهل أغنى عرفة عنه شيئًا؟!
- عاش "نجيب محفوظ" حالة احتضار شارونية -"نسبة إلى شارون الذي ستظل حالة احتضاره حالة تاريخية نادرة، تُري الناس كيف يستدرج الله أعداءه إلى عارهم وذلهم، وهم لا يدرون! فلو تأمل الصهاينة لحظة؛ لسارعوا إلى إنهاء حالة الاحتضار المخزية لطاغيتهم شارون"- وأجهزة عرفة ومعامله تحاول.. ولكن هيهات، تُرى لو كان يستطيع الكلام، هل كان سيأمر بنزع الأجهزة عنه؛ لعله أن يستريح من عناء الاحتضار مع أن ما بعده أشد منه؟! أم كان سيتشبث بالحياة التي عرفها وآمن بها؛ فرارًا من المجهول الذي جحده وتشكك فيه؟!
- وأخيرًا لقد مات "نجيب محفوظ".. فما الذي سيبكيه؟!
المقاهي، والملاهي، ودور السينما!
- مَن الذين سيشيعونه؟!
الراقصون والراقصات، والفنانون والفنانات!
إن قيمة كل إنسان تُعرف على وجه الحقيقة في الفراغ الذي سيتركه عند موته، فما هو الفراغ الذي سيتركه "نجيب محفوظ" في حياتنا غير ما ذكرنا مِن أدب الكفر والإلحاد، أو على أحسن الأحوال أدب السكر والعربدة؟!
وإذا كان الموت حقـًا على البر والفاجر، والصالح والطالح، وإذا كانت سكرات الموت شديدة على كل أحد، ولكن كفى بالإيمان مسليًا لصاحبه عن آلام الاحتضار.. وكفى بالرجاء معزيًا لأهل المصائب في مصابهم.. وكفى بالصدقات الجارية على أهل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلاً ورحمة ورضوانًا من الله -تعالى-.
وكما أن هناك صدقات جارية، فكذلك هناك سيئات جارية، كما في الحديث: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) (رواه مسلم).
فنصيحة لمن يحب "نجيب محفوظ" أن يخفف من تراكم الأوزار وتزايدها بما لا يعلم مداه إلا الله -سبحانه وتعالى-، وأن يمتنع عن نشر باطله؛ لاسيما ذلك الذي ضمَّنه الكفر والاستهزاء بالأنبياء وحقائق الإيمان، وإن كان كل تراثه حقيق بأن يَتبرأ منه كل مسلم صادق غيور.
فاللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا الإسلام حتى نلقاك عليه.