كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمَن لم يتألم لآلام المسلمين الدينية والدنيوية، ومَن لم يرَ آثار المحنة على العالم الإسلامي كله، في داخل أسرته وفي مجتمعه من حوله وبلده المسلمين في كل مكان، والدماء التي تُسفَك، والأعراض التي تنتهك، والحرمات التي تضيع، والمعاصي التي ترتكب، والكفر والربا الذي ينتشر، والاختلاف والافتراق، وتباعد القلوب والتنازع والشقاق، فما أشد قسوته! فالآلام كثيرة بلا شك، ونحمد الله على هذه الآلام.
إذا نظرنا إلى مواقف الأنبياء المنيرة الرائعة، فهذا موقف يعقوب -عليه السلام- حين يأتيه ألم مضاعف ويزداد؛ قال -تعالى- عنه: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (يوسف:83-86).
وها هي التي نريد أن نسلط شيئًا من الضوء حولها، وهي شكوى البث والحزن إلى الله -تعالى-، لنستفيد في واقعنا وإليك شيئاً من فوائد هذه الآيات، ثم نذكر تعليقًا عليها.
كيف كان وقع الخبر على يعقوب -عليه السلام-؟
ضاع ابنه الثاني الحبيب إلى نفسه، وغاب الثالث في انتظاره، وكيف كان رد فعله على هذه المصيبة الشديدة، وتخيل إنسانًا بمثل هذه المثابة تأتيه أخبار بمثل هذه الشدة والقسوة، ثم كيف يكون ابنه الحبيب المربى على عينه، الذي صفاته وسجاياه الطيبة شبيهة بيوسف الكريم -عليه السلام-، كيف يكون قد سرق؟! أمر لا يقبل ولا يصدق.
فكان من الطبيعي أن يتهم إخوته الذين سبق منهم الكذب والخيانة، ومضى منهم الحسد والضغينة، أن نفوسهم المريضة قد سولت وزينت لهم أمرًا بأخيهم الثاني، فكانت كلمتهم هذه: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (يوسف:82)، شبيهة بكلمتهم أول مرة: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) (يوسف: 17)، كما كان عهدهم في هذه المرة: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف: 63) كعهدهم أول مرة (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف: 12)، فكان جوابه عليهم مثلما قال لهم أول مرة: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (يوسف: 83).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال بعض الناس لما كان صنيعهم هذا مرتبًا على فعلهم الأول، سحب حكم الأول عليه، وصح قوله: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (يوسف: 83).
والذي يظهر -والله أعلم- أن يعقوب ما قصد فعلهم الأول حتى يتكلف تصحيح قوله: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) (يوسف: 83)، بل كان هذا ظنًّا من يعقوب -عليه السلام- أنهم صنعوا مكرًا لأخيهم بنيامين، ولا مانع من تجويز الخطأ في الظن على الأنبياء، وهم لا يُقَرون على ذلك، فإذا كانوا لا يُقَرون، فلأن يكون جائزًا وواقعًا ففيما لا يترتب عليه حكم أولى وأحرى، وقد اجتهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن الأعمى، ونزل عتابه: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى) (عبس:1-2)، واجتهد في أسارى بدر، ونزل قول الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) (الأنفال: 67)، واجتهد في قبول عذر المنافقين في غزوة تبوك، وأنزل الله -تعالى-: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (التوبة: 43).
وبيَّن الله -تعالى- عقوه في هذه الاجتهادات، وقد وقع منه -صلى الله عليه وسلم- من شأن النخل ما هو معلوم: فعن عائشة -رضي الله عنها- وعن ثابت عن أنس: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَُحَ. قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: (مَا لِنَخْلِكُمْ؟)، قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) (رواه مسلم).
وقال -تعالى-: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْمًا) (الأنبياء: 78-79).
وهذا كله دليل على جوز وقوع الخطأ في الاجتهاد من الأنبياء وأنهم ينبَّهون عليه؛ فهذا الذي وقع من يعقوب من هذا الباب. والله أعلم. وهو معذور -عليه السلام- لما وقع مهم بسابق فلتهم بيوسف -عليه السلام-، ومع ظنه ذلك كان رد فعله أجمل: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)، فهل تستطيع أن تتعامل مع من أساء إليك أو من تظن أنه أساء إليك هذه الإساءة بمثل هذا أن تقول: فصبر جميل؟ قارن بين موقفك ما من خاصمته في يوم من الأيام، أو مع من آذاك، وهل وصل أذاه إليك إلى مثل ما وصل إليه أذى أبناء يعقوب ليعقوب في يوسف.
ثم توقع أن يكونوا قد مكروا مكرًا بأخيهم الثاني، أو ظن ذلك فقال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) ورجح ذلك في الجملة، ومع ذلك قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي الذي لا شكوى فيه إلى الخلق.
ما أعظم صفات الأنبياء! هذه مصيبة هائلة وخطب جسيم، الجرح القديم والحزن الدفين، ومع ذلك فلا خطاب إلا بالصبر الجميل، بل ولما زاد الكرب وعظم المصاب واشتد البلاء رجا الفرج من الرب العليم الحكيم: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 83)، حقًّا مواقف تستخرج النور عندما يشتد الكرب تعبد بالرجاء، عندما يزداد الألم اطلب اليسر، وارج من الله بعلمه وحكمته أن يفرج عنك، وذلك لأنها سنته في الخلق: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح:5-6)، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: (وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
فهذه عبادة الرجاء مع عبادة الشكوى إلى الله -تعالى-، واستحضار معاني الصفات والأسماء، كالعلم والحكمة؛ فبعلمه وحكمته قدَّر هذا الألم، وقدر هذا الابتلاء، ليستخرج من عبده ونبيه ما يحب، هكذا يفعل الله بأوليائه، يقدر عليهم أنواع الابتلاءات والمحن ليرى منهم عباداتهم، وليرى صبرهم الجميل الذي لا يشتكون فيه إلى الناس، ولا يجزعون؛ فالصبر هو حبس النفس عن الجزع، فلا يقول: لماذا يفعل الله بي ذلك؟ أو أنا في ضيق من هذا الأمر يا رب! بمعنى أنه لا يحتمل، ولا يرى فيه حكمة ولا مصلحة. فصبر جميل أي: ليس فيه جزع، وصبر ليس فيه شكوى إلى الناس، ولكن يشكو الناس إلى الله.
وهذه الآية بلا شك لها شأن عند الصحابة -رضي الله عنهم-، وخصوصًا عند عمر -كما سيأتي-، والصبر الجميل ليس فيه تصريح بثقل المصيبة، والصبر كله كذلك، لكن الصبر الجميل خصوصًا لا يشتكي فيه إلى الخلق على الإطلاق، وإنما يشكو بثه وحزنه إلى الله -تعالى-، وبه يعود إلى يوسف وبنيامين والابن الثالث كبيرهم يهوذا كما ذكر، وعسى من الله واجبة، وهي من أنبياء الله خبر من عند الله -تعالى-، فإن شدة البلاء علاوة على قرب الفرج؛ لأن الأمور يدبرها العليم بأحوال عباده، وليست من صنع البشر.
إن المقادير يقدرها العليم الحكيم بعلمه وحكمته وإحكامه لكل شيء صنعه، لا يضع الأشياء إلا في موضعها، ولا يشرع الشرائع ولا يقدر المقادير إلا بالحكمة والمصالح التي هي أحب إليه لو لم يقدر المكروه، بكم في هذا الألم الذي قدَّره الله على يعقوب -عليه السلام- من حكمة باهرة ومصلحة عظيمة، وعبادة له -سبحانه وتعالى-.