الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 10 أبريل 2025 - 12 شوال 1446هـ

الوصايا النبوية (17) الوصية بالصحابة (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: إنَّ عمرَ خطبهم بالجابيةِ(1) فقال: يا أيُّها الناسُ، إنِّي قمتُ فيكم كقيامِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فينا، قال: (‌أُوصِيكُمْ ‌بِأَصْحَابِي، ‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ، ‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ ‌مُدَّ ‌أَحَدِهِمْ ‌وَلَا نَصِيفَهُ) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ ‌النَّاسِ ‌قَرْنِي، ‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ، ‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ) (متفق عليه).   

مجمل الوصية:

في هذه الوصية يقولُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (‌أُوصِيكُمْ ‌بِأَصْحَابِي)، أي: أعطوهم حقوقَهم وأنزلوهم منزلتَهم، وقدِّروهم، ولا تهينوهم ولا تسبُّوهم، ودافعوا عن أعراضهم، وأوصيكم أيضًا بالذين يأتون من بعدهم وهم أبناؤُهم وأتباعُهم من التابعين، وأوصيكم أيضًا بالجيلِ الثالثِ الذين يأتون من بعدهم وهم أتباعُ التابعين.

الجزء الأول من الوصية: (‌أُوصِيكُمْ ‌بِأَصْحَابِي):

- مجمل كلام العلماء في تعريف الصحابة -رضي الله عنهم-: هم كلُّ من لَقِيَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأسلم وبقي على الإسلام حتى مات؛ كما أنه يقصد بالصحابة حملة رسالة الإسلام الأولين، وأنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- المدافعين عنه، والذين آمنوا بدعوته وماتوا على ذلك. ويقصد بهم الذين رافقوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في أغلب فترات حياته بعد الدعوة، وأعانوه على إيصال رسالة الإسلام ودافعوا عنه بأرواحهم وأموالهم. ثم بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- حملوا راية الدين، وتفرقوا في الأمصار لنشر تعاليمه وفتحوا المدن والدول، وعددهم -رضي الله عنهم- كبير، ولكن لا يمكن القطع به لتفرقهم في البلدان والقرى والبوادي، ولكن اتفقت كتب التاريخ والسير على أنهم كانوا في حجة الوداع مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، يزيدون على مائة ألف صحابي.

فضل الصحابة في القرآن والسنة: 

- جاءت الأدلة الكثيرة في الكتاب والسنة تبيِّن ذلك: قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100). وقال -تعالى-: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح: 18). وقال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29)

- وجاءت كذلك الأدلة الكثيرة في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ ‌مُدَّ ‌أَحَدِهِمْ ‌وَلَا نَصِيفَهُ)(2). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (خَيْرُ ‌النَّاسِ ‌قَرْنِي، ‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ، ‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ).   

- عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌النُّجُومُ ‌أَمَنَةٌ ‌لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ) (رواه مسلم)

طبقات الصحابة -رضي الله عنهم-: 

- الصحابة درجات بعضها فوق بعض، فالسابقون الأولون الذين أسلموا وجوههم إلى الله، ولبوا مناديه إلى الإيمان، وكان كل من على سطح هذه المعمورة مخالف لهم هم المهاجرون، ويلي هؤلاء السابقين من المهاجرين، السابقون من الأنصار وهم الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة على أن يمنعوه من الأسود والأحمر، وآووه في ديارهم: قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). 

- وما سوى الصحابة الكبار طبقات بعضها أفضل من بعض: قال -تعالى-: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد: 10)

الجزء الثاني من الوصية: (ثمَّ الذينَ يلونهم) (التابعون):

- مجمل كلام العلماء في تعريف التابعين -رحمهم الله-: التابعون هم: الطبقة الثانية من المسلمين الذين أخذوا علمهم ودينهم من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقاموا خلفهم بحمل الرسالة والدعوة إليها، وقد التف التابعون حول الصحابة يأخذون عنهم القرآن والحديث وينهلون من علوم الشرع على الصورة التي نقلوها لهم عن رسول الله، وتتلمذوا على يد الصحابة بإقبال وشغف ومحبة، ثم كان لهم الشرف في حمل ذلك ونشره، وكان الصحابة قد تفرقوا في الأمصار واشتهر في كل بلد عدد معين من التابعين وكانوا حلقة مهمة ومؤثرة بين الصحابة وجيل أئمة المذاهب وتلاميذهم ومن جاء بعدهم؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَطُوبَى ‌لِمَنْ ‌رَأَى ‌مَنْ ‌رَآنِي وَلِمَنْ رَأَى مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).

فضل التابعين: 

- أشار القرآن الكريم إلى فضلهم: قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

قال الشيخ حافظ الحكمي: "وقد رتَّب الله -تعالى- فيها الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أردفهم بذكر التابعين؛ كما في قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)". 

- وهم المقصودون بالثناء النبوي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ ‌أُمَّتِي ‌قَرْنِي، ‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ، ‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ) (متفق عليه). والمقصود الصحابة ثم التابعون بعدهم.

فضل التابعين في نشر الدين: 

- بعد أن تلقَّى التابعون علومهم على يدي الصحابة، وخالطوهم وعرفوا كل شيء عنهم، بدأت مرحلة تدوين الحديث: عن أبي قلابة قال: "خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قرطاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر وهو معه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما هذا الكتاب؟ قال: حديث حدثني به عون بن عبد الله فأعجبني فكتبته". ثم أمر -رحمه الله- بجمع حديث النبي في دواوين، وبهذا بدأ تدوين وكتابة الحديث من قبل التابعين. 

- لم يكتفِ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بالأمر بجمع السنة، بل حث العلماء على نشرها في المساجد: روى البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم يقول: "ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا"(3)

الجزء الثالث من الوصية: (‌ثُمَّ ‌الَّذِينَ ‌يَلُونَهُمْ) (تابعو التابعين): 

- تابع التابعي هو: مَن لَقِيَ التابعي وأخذ عنه العلم والسنة، وعصر تابعي التابعين هو العصر الذي يلي عصر التابعين، وهو يبدأ من سنة مائة وسبعين تقريبً(4). ومن أشهر أتباع التابعين: الإمام مالك بن أنس، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق بالمدينة المنورة، وسفيان بن عيينة بمكة المكرمة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، وأبو يوسف بالعراق. 

- ومع انقراض تابعي التابعين بدأت تظهر البدع، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها وامتحن أهل العلم بالقول بخلق القرآن، ولم يزل الأمر في نقص إلى هذا الزمان. 

واجبنا تجاه السلف الصالح: 

- كما جاء في مجمل الوصية: "أعطوهم حقوقَهم، وأنزلوهم منزلتَهم، وقدِّروهم، ولا تهينوهم ولا تسبُّوهم، ودافعوا عن أعراضهم، وانشروا فضائلهم، واقتدوا بهديهم؛ فإنهم خير الناس". 

فاللهم اجمعنا بالسلف الصالحين في جنات النعيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) خطبة عمر -رضي الله عنه- هذه مشهورة، خطبها بالجابية -وهي قرية بدمشق-. 

(2) قال البيضاوي: "معنى الحديث: لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أُحُدٍ ذهبًا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مُدِّ طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص، وصدق النية مع ما كانوا من القلة، وكثرة الحاجة والضرورة. وقيل السبب فيه: أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدد المتقدمين، وقلة أنصارهم فكان جهادهم أفضل؛ ولأن بذل النفس مع النصرة، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها".

(3) من التابعين -على سبيل المثال لا الحصر-: هشام بن عروة، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، ومحمد بن سيرين، وغيرهم كثير. 

(4) قال السيوطي -رحمه الله-: "والأصح أن القرن لا ينضبط بمدة، فقرنه -صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من الصحابة مائة وعشرون سنة، وقرن التابعين من مائة سنة إلى نحو سبعين، وقرن أتباع التابعين من ثم إلى نحو العشرين ومائتين".