الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 03 مارس 2025 - 3 رمضان 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (202) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (18)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).

في قوله -تعالى-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا): أن العبد إذا لم يستطع أن يُقيم دينه إلا بأن يُفارق أهل الباطل ودارهم؛ وَجَب عليه ذلك.

وكذا لا بد من مفارقتهم حتى لا يتأثر بهم في سلوكه وعمله، فصحبة أهل الشر والسوء تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثيرٍ من الناس؛ أن مصاحبته للكفرة والظلمة، والعصاة والفسقة، والمجرمين تهيِّئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم في باطنه قبل أن يكون في ظاهره -والعياذ بالله من ذلك-؛ فكثير من الناس يحب أهل الباطل لكثرة  معاشرتهم، فمن وجد نفسه في خلطة لقرناء السوء، ووجد أن هذه الخلطة تقوده إلى موافقتهم وجب عليه مفارقتهم على الفور، فلا يجوز له أن يُقيم وسطهم إلا مع الإنكار عليهم ودعوتهم إلى الله؛ ولهذا أقام الأنبياء في بلاد الكفر يدعون إلى الله، ويُنكرون الكفر والشرك والفسوق والعصيان.

ولا يجوز لمسلم أن يقيم في أرض يفعل فيها الكفر والفسوق والعصيان؛ إلا لغرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، أو مصلحة شرعية أخرى، وأما أن يكون مقيمًا لأجل دنيا يُصيبها أو أهل أو مال أو ولد؛ فهذا ممَّن يُقال له: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (النساء: ??)، فطالما كان عاجزًا عن إقامة دينه متأثرًا بحالهم -ولا شك أنه يتأثر- لزمه التحول عنهم؛ فإن الإنسان إنما يتأثر بأصحابه وأصدقائه أعظم تأثير، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرُ أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِلُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال: (لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيُّ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

والصداقة من معاني الموالاة فلا تصح لكافر، بل لا يجوز أن يُصادق الفسقة والفجرة والظلمة، ولا أن يسكت عليهم حين يجلس معهم في مجالسهم، قال -تعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء: ???).

وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: ???).

فأنجى الله الذين كانون ينهون عن السوء وقال: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف: ???).

ومَن لم يتمعَّر وجهه في الله وهو يرى المنكرات أمامه، ولا يقيم لغرض شرعي صحيح؛ فهذا يُبدأ به في العقاب؛ فإنه لم يتمعر ولم يتغير وجهه في الله، ولا يكون صالحًا وإن كان يُظهر الصلاح أو يفعل في نفسه الصلاح.

فليوطن كل مسلم نفسه على أن يعتزل الباطل وأهله؛ يعتزل الباطل فلا يفعله، ولا يعتقده، ولا يرضى به، ولا يُقر به، وكذلك لا يُصاحب أهل الباطل، بل يعتزلهم، ويُفارقهم إلا لغرض شرعي صحيح.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.