الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 25 فبراير 2025 - 26 شعبان 1446هـ

من ضوابط الجهاد في سبيل الله... حول القدرة والعجز والقوة والضعف (من تراث الدعوة)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال النووي -رحمه الله-: "قَالَ الجُمْهُورُ: إِذَا الْتَقَى الصَّفَّانِ، فَلَهُ حَالَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَزِيدَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى ضِعْفِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ ‌بَلْ ‌كَانُوا ‌مِثْلَيِ ‌الْمُسْلِمِينَ ‌أَوْ ‌أَقَلَّ؛ ‌فَتَحْرُمُ ‌الْهَزِيمَةُ ‌وَالِانْصِرَافُ ‌إِلَّا ‌مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ... هَذَا ‌الَّذِي ‌ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْهَزِيمَةِ إِلَّا لِمُتَحَرِّفٍ أَوْ مُتَحَيِّزٍ، هُوَ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ؛ أَمَّا مَنْ عَجَزَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِلَاحٌ؛ فَلَهُ الِانْصِرَافُ بِكُلِّ حَالٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَلِّيَ مُتَحَرِّفًا أَوْ مُتَحَيِّزًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الرَّمْيُ بِالْأَحْجَارِ، فَهَلْ تَقُومُ مَقَامَ السِّلَاحِ؟ وَجْهَانِ؛ قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: تَقُومُ.

وَلَوْ مَاتَ فَرَسُهُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ رَاجِلًا؛ فَلَهُ الِانْصِرَافُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ قُتِلَ: هَلْ لَهُ الِانْصِرَافُ؟ وَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: الْمَنْعُ. (قلتُ: الراجح في هذه المسألة أن مَن غلب على ظنه أنه إن ثَبَت قُتِل؛ فإنه يكون مثل الذي فقد السلاح فله أن ينصرف؛ لأن حفظ رأس مال الإسلام، وحقن دماء المسلمين بفرار بعضهم من الجيش إذا غلب على ظنه أنه مقتول ثم يعود للجهاد والقتال في سبيل الله أنفع لأهل الإسلام من أن يُقتَل بلا مصلحة للمسلمين).

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ، جَازَ الِانْهِزَامُ، وَهَلْ يَجُوزُ انْهِزَامُ مِائَةٍ مِنْ أَبْطَالِنَا مِنْ مِائَتَيْنِ وَوَاحِدٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْكُفَّارِ؟ وَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ لَوْ ثَبَتُوا، وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْعَدَدُ عِنْدَ تَقَارُبِ الْأَوْصَافِ. وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْأَوْصَافِ يَعْسُرُ ... وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي عَكْسِهِ.   

وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ إِنْ ثَبَتُوا ظَفِرُوا، اسْتُحِبَّ الثَّبَاتُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الْهَلَاكُ، فَفِي وُجُوبِ الْفِرَارِ وَجْهَانِ، وَقَالَ الْإِمَامُ -يعني: الجويني-: إِنْ كَانَ فِي الثَّبَاتِ الْهَلَاكُ الْمَحْضُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ، وَجَبَ الْفِرَارُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نِكَايَةٌ فَوَجْهَانِ؛ أَصَحُّهُمَا: يُسْتَحَبُّ وَلَا يَجِبُ" (روضة الطالبين).

وذكر "ابن ‌جزيِّ" الغرناطي المالكي في "القوانين الفقهية" نحوًا من هذا.

ومما يُعَضِّد هذا: قول موسى -عليه السلام- للإسرائيلي: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) (القصص: 18).

قال القرطبي -رحمه الله-: "أَيْ: لِأَنَّكَ تُشَادُّ مَنْ لَا تُطِيقُهُ".

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث نزول عيسى ابن مريم -عليهما السلام- عن يأجوج ومأجوج: (فَأَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، ‌فَحَرِّزْ ‌عِبَادِي ‌إِلَى ‌الطُّورِ) (رواه مسلم).

فالواجب عند العجز عن القتال: تحريز عباد الله المؤمنين وحفظهم، لا مصادمتهم لعدو يصطلمهم ويهلكهم بغير مصلحة؛ فالجهاد لا يعود على مقصوده "وهو: إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه وأهله" بالنقض؛ بقتل المسلمين، وسبي نسائهم مِن غير مصلحةٍ للمسلمين!

وأما قول مَن يقول: "إنه ليس بعد الكفر مفسدة؛ فهو أعظم المفاسد".

قلنا: نعم، هو أعظم المفاسد من جهة النوع؛ أما من جهة الكم، فالزيادة عليه بالصدِّ عن سبيل الله وأذية المسلمين، مع استمرار الكفر وبقائه، أعظم مفسدة وضررًا، قال الله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ) (النحل: 88)؛ فكافرٌ يؤذي المسلمين أشد خطرًا مِن كافرٍ لا يؤذيهم.