الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 15 فبراير 2025 - 16 شعبان 1446هـ

الخيارات العربية أمام التطلعات الشعبوية لترامب

كتبه/ أحمد الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

تمهيد:

منذ أن نجح ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نهاية عام 2024، تعهد أنه فور توليه منصبه بشكل رسمي سيعمل على إيقاف الحرب في الشرق الأوسط، وإلا فسوف يشعل الشرق الأوسط بنيران لم يرها أحد من قبل. وما هي إلا أيام واندلعت حرائق ضخمة في غابات كاليفورنيا أتت على الأخضر واليابس، ووقف الحكومة الأمريكية وكل أجهزتها عاجزين عن إطفاء هذه الحرائق المدمرة التي لم تشهد أمريكا لها مثيلًا قبل ذلك، وكأنها رسالة لذلك الطاغية أن يبصر حقيقة نفسه، وألا يتمادى في الغرور؛ فيأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

ثم فوجئ العالم أن إسرائيل قبلت بالصفقة التي ظلت ترفضها عبر 15 شهرًا من الحرب، حتى باءت فيها كل محاولات الوسطاء بالفشل. وبالفعل قبلت إسرائيل بصفقة متعددة المراحل، ونصتِ الصفقة على انسحابها من قطاع غزة، ومن محور فيلاديلفيا، وغيرها من مناطق القطاع، واستلمت مصر إدارة القطاع لتمهد الطريق أمام عودة السكان إلى أماكنهم التي هُجروا منها، خاصة سكان الشمال.

ولأن "الحداية لا تحدف كتاكيت!" -كما يقول المثل الشعبي-؛ فقد فوجئ العالم أيضًا: أن ترامب يتحدث عن ضرورة مغادرة سكان أهل غزة إلى مصر والأردن؛ لأن القطاع لم يعد فيه مقومات الحياة الطبيعية، وأنه لا بد من إعمار غزة وإعادة بنائها، وهذا يستلزم مغادرة أهلها (بصورة مؤقتة) لحين إنهاء الإعمار. ومع الرفض المصري الأردني للمقترح الترامبي، ظهر ترامب في لقاءات مع الإعلاميين معبرًا عن أنه واثق من أن الأردن ومصر سيقبلان في نهاية المطاف، وأن هناك دولًا ترفض في البداية، لكنها توافق بعد ذلك.

ثم ظهر ترامب بصورة أكثر صراحة؛ ليفصح أن مخطط التهجير الهدف منه احتلال أمريكا لغزة وإعادة إعمارها وتحويلها لمدينة سياحية جميلة تحت الإدارة الأمريكية مباشرة؛ بما يعد عودة لعصور الاحتلال والاستعمار الصريح، مع ضرب القانون الدولي في عرض الحائط. ثم طور ترامب من هجومه ليشمل السعودية، وأنها يلزمها هي الأخرى أن تستضيف الفلسطينيين، وأن تقيم لهم دولة على أرضها. وهذا السخف الترامبي فجر موجة حادة من الغضب العربي تجاه هذه التصريحات غير المسؤولة، وأصدرت الخارجية المصرية بيانًا حاد اللهجة ترد فيه على هذيان ترامب، وتؤكد على أن أمن المملكة خط أحمر، وأن أمنها من أمن مصر، وأنها لن تتوانى في الدفاع عنها إذا تعرضت للخطر.

 

هذا ملخص أحداث الأيام الماضية منذ تولي ترامب منصبه بشكل رسمي في نهاية شهر يناير 2025؛ فما خلفية ترامب الأيديولوجية؟ وما دوافعه لتوسيع دائرة خصومه بهذا الشكل السريع، وما هو الواجب على العرب فعله تجاه هذه التجاوزات الترامبية؟

تعريف الشعبوية:

يشير مصطلح الشعبوية إلى أولئك الأفراد الذين يدعون أنهم يتحدثون نيابة عن الشعب، ويعارضون النُّخَب الفاسدة، ويناهضون كافة أشكال التنظيم المؤسسي المجتمعي. وهو يشير إلى نزعات جانحة إلى الغوغائية والفوضوية في التفكير السياسي.

والجدير بالذكر: أن الشعبوية تجد حاضنتها الأساسية في أوساط اليمين المتطرف؛ لذلك عادة ما يكون الشعبوي يمينيًّا متطرفًا. ويعتبر المحللون أن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" يجسد النموذج الحرفي للشعبوية.

مفردات الشعبوية الأمريكية في عهد ترامب:

1- الثقة في القيادة ذات الصفات العظيمة.

2- اتهام النخب الفاسدة بخيانة مصالح الشعب.

3- التعصب للعرق الأبيض واعتقاد سموه وتحضره.

4- السلوك العدائي تجاه المهاجرين والأجانب.

5- إظهار الكراهية الشديدة للإسلام والإصابة بالإسلاموفوبيا.

6- اعتبار الإنجيلية مكونًا أساسيًّا من الفكر الشعبوي.

معالم سياسة ترامب الخارجية في الفترة الأولى من ولايته:

1- الموقف العنيف من المكسيك؛ لأن الواردات المكسيكية الرخيصة من القطاع الزراعي تسببت في إيذاء مزارعي الولايات المتحدة الأمريكية؛ بالإضافة إلى حزمة أخرى من الملاحظات التي تخص العلاقة التجارية بين البلدين.

2- الموقف العدائي من كندا لرفض كندا استيراد الحليب الأمريكي المعالج بالهرمونات؛ بالإضافة للسياسة الكندية في استرضاء الانفصاليين في كيبيك.

3- الحرب التجارية مع الصين بوضع تعريفات جمركية على سلع مختارة، وتقييد الاستثمار الصيني في التكنولوجيا الأمريكية الحساسة.

4- الحملة الشرسة ضد الكاثوليك الإيرلنديين والصينيين على الأراضي الأمريكية.

5- محاولة شراء جرينلاند من الدنمارك؛ لأن مساحتها كبيرة، وأنه يرى كمطور عقاري أن هذا الكيان العملاق لا بد أن يكون جزءًا من الولايات المتحدة الأمريكية.

6- محاولة حظر المسلمين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية ومهاجمة الشريعة الإسلامية.

7- العلاقات المتينة والعميقة مع الصهاينة وإسرائيل، ويكفي أن إدارة ترامب في الفترة الأولى أفرزت أربعة قرارات غاية في الخطورة، وهي: نقل السفارة الأمريكية للقدس - الاعتراف بالجولان كجزء من إسرائيل - اتفاقية السلام من أجل الازدهار (صفقة القرن، ولكنها تعثرت) - الاتفاقات الإبراهيمية (التطبيع مع إسرائيل، ولكنه لم يكتمل).

8- النظر إلى التحالفات والقواعد العسكرية الموجودة في أنحاء العالم باعتبارها عبئًا اقتصاديًّا وهدية مجانية من بلاده.

9- الانسحاب من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ والصدام مع المحكمة الجنائية الدولية.

10- حالة من الود والوفاق والتناغم بين ترامب وبوتين وتأييد ترامب لاحتلال روسيا لجزيرة القرم.

ملامح شخصية ترامب -كما ظهرت في حواراته وتصريحاته-:

تتسم شخصية ترامب بعدة سمات ظاهرة:

(1) أنه على درجة عالية من التعظيم المبالغ فيه لشخصه؛ حتى إنه وصف نفسه بأن لديه "عقل كبير جدًّا جدًّا" - "لا أحد يقرأ الإنجيل أكثر مني" - "هل يوجد من يعرف التقاضي أكثر من ترامب؟" - "أنا عبقري" - "أنا أذكى من قادة الجيش جميعًا ولن أحتاج لمشورتهم ولا لتقارير المخابرات"، وكل هذه العبارات قفزت في خطاباته المعلنة على مرأى ومسمع من الجميع.

(2) التقلب المفاجئ في عملية صنع القرار.

والجدير بالذكر: أن الرئيس الكوري درس شخصية ترامب جيدًا، ووظَّف شخصيته كأفضل ما يكون حيث كال له المديح، وسأله عن رأيه في شخصيته، وهو تكتيك أتى بثماره وجعل يمدحه ويثني عليه، حتى إن ترامب طلب من البنتاجون إلغاء التدريبات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية بزعم أنها مكلفة! والعجيب: أن هذا كان طلب رئيس كوريا الشمالية بشكل صريح!

في مقابل ذلك؛ فإن مثل هذه الشخصيات يكونون عدوانيين جدًّا في مواجهة الإهانات، بينما يميلون للتوافق مع أمثالهم.

(3) يؤمن ترامب بتفرده في عقد الصفقات الرابحة والمستحيلة، وهو ينسب هذا النجاح إلى نبوغه وعبقريته، وهو في المقابل يحب أن يبدو كرجل شجاع صلب الحديث لا يقبل التراجع ولا الاعتذار.

(4) تاريخ ترامب كتاجر ثري يجعله يرى الواقع على أنه مجموعة من الصفقات الممكنة التطبيق، وأن كل شيء يمكن أن يُشترى بالمال، ومن ذلك أنه يتعامل مع معضلة الشرق الأوسط بنفس الرؤية التسطيحية التجارية.

(5) أن تاريخه في الأعمال غير اللائقة جعله يبدو بلا أي حمرة من الخجل أو الحياء، ودون أدنى التزام بالأعراف الدبلوماسية المتبعة في العلاقات بين الدول والرؤساء، مما جعل تصريحاته السياسية كأنها مادة للفضائح والأسرار التي لا يبالي بالبوح بها أمام الكاميرات بدون أدنى حسابات.

(6) يرى كثير من المحللين أن إستراتيجية ترامب في عقد الصفقات تتلخص فيما يلي:

1- ضع هدفًا عاليًا جدًّا في البداية، وقدم عرضًا مستفزًّا يظهر فيه ازدراؤك للطرف الآخر.

2- اضغط على الطرف الآخر بكل الوسائل، واجعله في حالة من القلق والترقب.

3- اقبل في النهاية بما هو أقل من العرض الأول مع إظهار عدم رضاك عن الصفقة، وأنك تنازلت تنازلات ضخمة من أجله.

الخيارات العربية أمام العنجهية الترامبية:

في هذه الآونة الحساسة من عمر الأمة العربية، ينبغي أن ينتبه الأشقاء العرب من القادة والمؤسسات والشعوب لما يلي:

(1) أهمية الرجوع إلى الله، والدعاء أن يكف الله بأس هؤلاء عنا، فإذا كان ترامب يدعو أمته إلى أهمية العودة إلى الله وأنه مؤيد من السماء، فنحن أحق بهذا منه ليس في وقت البأس والبلاء فقط، ولكن في كل الأوقات.

(2) التكاتف العربي والوحدة بين الدول العربية كافة، وخاصة دول الجوار الفلسطيني أصبحت ضرورة ملحة من الناحية الشرعية والقومية والأمنية؛ لأن شهية ترامب لن تتوقف عند شراء غزة، فعيون ترامب ترى الشرق الأوسط كله مثل (كومباوند) يمكن أن يشتريه بالمال أو بدونه إذا أراد! 

(3) القضية الفلسطينية تمر بمنعطف خطير للغاية يمكن لا قدر الله أن يقضي عليها بالكلية، والصراحة التي يتمتع بها ترامب تفضح أنه يريد أن يقضي على غزة والضفة، ويعطي القدس لإسرائيل لتكون عاصمتها الرسمية الأبدية، فهل هناك خطورة أعظم من ذلك؟ فلم تعد المخططات في الأدراج وإنما صارت تتم في الواقع أمام أعين الجميع.

(4) الدول العربية تمتلك أوراقًا مهمة يمكن إذا تم التنسيق بينها أن تكون أداة ردع قوية أمام الجشع الترامبي، وفي هذا السياق ينبغي على كل الدول العربية التي سارعت بالتطبيع مع الكيان الصهيوني أن تعيد النظر هذه الاتفاقات، ليدرسوا فوائدها وسلبياتها، وليدرسوا إمكانية إيقافها.

(5) ينبغي أن يكون موقف الدول العربية -كما ظهر عبر بياناتها الرسمية- هو الرفض التام والقاطع لعروض ترامب، وإلا فشخصية المفاوض المغامر لا تمل من طرح العروض المختلفة شكلًا المتفقة مضمونًا، وإذا كان البعض يستعمل مصطلح (BIG NO) للتعبير عن الرفض الشديد لموقف ما، فسنحتاج هنا إلى أن نقول: (VERY BIG NO).

(6) ضرورة ترميم الجبهات الداخلية وتوحيد كلمة الشعوب على كلمة سواء؛ لأنه لا يمكن للدول أن تواجه أعداءها المتربصين بها في ظل وجود أزمات حادة أو مشكلات مزمنة تعاني منها المجتمعات؛ خاصة أن وسائل الأعداء في العبث ببلادنا كثيرة ومتعددة.

(7) ينبغي على الفصائل المسلحة في غزة "خاصة حماس والجهاد"؛ أن تفهم أن بقاءها ضمن دائرة الدول العربية والإسلامية هو الكفيل -بإذن الله- أن يوفِّر لهم الدعم الممكن لدعم القضية، وأن ارتماءها في أحضان إيران عبر سنوات لم يعُد بالنفع على القضية إلا بتصريحات حماسية وخطابات ساخنة من المعممين الإيرانيين، وأن سلوك كثير من الدول العربية وإن كان يبدو هادئًا أو عقلانيًّا إلا أنه هو الأطول نَفَسًا، والأعمق أثرًا، أما الآن فلم نعد نسمع لا خطابات ساخنة ولا باردة، ومع ذلك تصر قادة حماس على علاقاتها المستفزة بإيران، فهل هناك أمل من الإفاقة من هذه الغيبوبة؟

(8) آن الأوان لبعض الجماعات الإسلامية التي خاصمت مجتمعاتها وواجهت الأنظمة السياسية في بلدانها أن تعود إلى رشدها، وألا تكون شوكة في خاصرة الأمة، وإلا فإن الدول التي تفتح لهم سماواتها الفضائية ليبثوا منها خطابات التخوين والتثوير هي نفس السماوات التي تنطلق منها الأسلحة لمعاونة إسرائيل في حربها على فلسطين، فهل ما زالوا يعيشون على أحلام دعم الغرب لهم أمام أنظمة بلادهم؟ وهل يفعل الغرب ذلك من أجل سواد عيونهم أم من أجل القضاء على البقية الباقية من البلاد والجيوش ومقدرات الدول؟

وإذا كانوا يزعمون طوال تاريخهم أن فلسطين هي قضيتهم الكبرى، فأين ذهبت هذه القضية الآن؟!

وفي الختام: لا نجد ما نعبِّر به عن حال الدول العربية والإسلامية وخاصة مصر الحبيبة إلا بكلمات الشاعر "أحمد محرم" في ديوانه "اشهدي يا مصر أعمال البنين":

يا لـقـومي جـاهـدوا لا تــهـنـوا               وسـيـأتـي الله بالـنـصـر المبيـن

أنـجـدوا مـصـر إذا ما فــزعــت               وأهـابـت بالـكـمـاة الـبـاسـلـيـن

احـفـظـوها إن مـصـر إن تـضع               ضاع في الدنيا تراث المسلمين