كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتمر الأمم والشعوب والجماعات بأزمنة طويلة، تظل فيها الأمور على وتيرة واحدة، يظن كثيرٌ من الناس فيها أنها لن تتغير، وربما يقسم البعض على عدم تغيُّرها، (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ . وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) (إبراهيم: 44، 45).
وفي هذه الأزمنة: يطغى مَن يطغى، ويظلم من يظلم، وينمو التقليد الأعمى ولو كانت أبسط نظرات العقول تدل على بطلانه، ثم تأتي أيام فارقة تضطرب فيها الأحوال فجأة، وتختلف القلوب، وتتفرق الأمم، وتتغير الموازين، وتتفاوت أنظار الناس، والقرارات فيها من أخطر ما يمكن؛ إذ إن أثرها يستمر أجيالًا على الأمة أو الشعب أو الجماعة؛ فربما قرار لم يَستفرغ متخذُه الوسع في الاجتهاد فيه، ولم يعمِل النظر في المآلات، وإنما حملته على قراره العاطفة، وربما كان الجهل، (حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) (متفق عليه)، وربما كان البغي (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (الجاثية: 17).
ولقد بقيت أمم عقودًا من الزمان في حرب واقتتال، وفتن، ذاق بعضهم فيها بأس بعض، وانتشرت بسبب ذلك بدع وضلالات، وسُفِكت دماء وانتهكت حرمات، وتسلَّط الأعداء، واحتلت البلاد.
وفي هذه الأوقات العصيبة يكون السائر فيها كسائر في طريق الشوك؛ العاقل فيها يحذر ما يرى، بل ربما يكون كالسائر في حقول ألغام يخشى أن ينفجر فيه لغم في أي وقت، ويقف العلماءُ فيها مشفقين في أمور الموازنة بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد؛ لأن الأمور فيها تشتبك، وقلما خلصت حسنات ومصالح، أو سيئات ومفاسد في جانبٍ واحدٍ، بل كل قرار يتضمن حسنات وسيئات مجتمعة معًا.
وهذا يحتاج إلى اجتهاد أعمق، ودراية بالواقع أكثر، ونظر إلى المآلات أبعد، ليُنظر: أي الأمور أرجح بميزان الشريعة؛ فإن كل أحد يدعي الإصلاح ومحاربة الفساد، كما قال -تعالى- عن المنافقين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 11-12)، وقال -تعالى- عن فرعون: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر: 26)، فلا بد أن توزن المصالح والمفاسد بميزان الشريعة، وهي تحتاج إلى علم راسخ، وإلا لم يصلح الميزان.
وقد يُقدِم الإنسان على الكفر، ويظنه مهارة سياسية! وقد يفعل النفاق ويظنه حنكة وخبرة، وقد يقدم على التهور والشطط وهو يظنه شجاعة وجرأة، وقد يحجم عن الواجب ويجبن عنه ويقول: (ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي) (التوبة: 49)، وهو يرى ذلك حكمة وتؤدة!
وأحيانًا تكون الأمور واضحة، وأحياناً تُظلِم الدنيا، ويصعب الاجتهاد؛ فتكون الشورى في تلك الأحوال أوجب، ومراجعة التاريخ ألزم، والنظر في تجارب سبقت لنا أو لغيرنا آكد.
والعجيب: أن أكثر من يقدم بسرعة على فتوى أو عمل هم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يعرفوا بديهياته وأولوياته.
وأعجب من ذلك: أنك تجد هؤلاء في أشد العنف على مَن خالفهم، وربما كفَّروه أو نفَّقوه، وربما استحلوا دمه وعرضه وماله!
والعباد الصالحون في هذه المِحَن يستحضرون خطرها ليس على أنفسهم فقط؛ بل على أمتهم، ويستشعرون المسئولية عن أبناء أمتهم في حاضرهم ومستقبلهم كما يوقنون بضرورة الثبات على الدِّين والمنهج، وتجنُّب البدع والانحراف؛ فإن أوقات الفتن تظهر فيها البدع، وتُفقَد فيها الثقة في أهل العلم كما ظهر الخوارج في الفتنة بين الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم تستوعب قلوبُهم المريضة الخلاف بينهم، فطرحوا كلامهم ومنهجهم، وابتدعوا بدعة التكفير، واستحلوا دماء خير أهل الأرض تقربًا إلى الله! تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا.