كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- من الأخلاقيات الكريمة المنشودة: "الحكمة": قال -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة: 269).
- تعريف الحكمة: أصل الحكمة في اللغة: من الحكمة، وهي ما أحاط بحَنَكَي الفرس، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، وتُذلِّل الدَّابَّة لراكبها، حتى تمنعها من الجِماح، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل. (القاموس المحيط - لسان العرب). وفي الاصطلاح: قال ابن القيِّم: "الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي" (مدارج السالكين).
- ففي الجملة: الحكيم هو الشخص الذي لديه القدرة على الموازنة العقلية بين نتائج الأمور على المدى القصير والمدى البعيد، وبين المصلحة الشخصية ومصالح الآخرين، وذلك مع التفكير في جميع الخيارات المتاحة، وفقا للوضع القائم، أو من خلال السعي لتشكيل وضع جديد.
(1) شواهد مدح الحكمة في الكتاب والسنة وكلام السلف والحكماء:
- جعل الله الحكمة من أعظم نعمه على عباده: قال -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة: 269). وعن سفيان بن عيينة قال: "كان يقال: إنَّ أفضل ما أُعطي العبد في الدُّنيا الحِكْمَة، وفي الآخرة الرَّحمة" (حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني).
- أثنى الله على نبيه داود بما امتن عليه به من نعمة الحكمة، بما يدل على أهميتها في إدارة الملك والرعية: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص:20).
- ورفع الله مكانة عبد سوداني، وصار بين الناس مثالًا للحكماء، حتى ظنه بعض العلماء نبيًّا، بسبب ما أعطى من نعمة الحكمة: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان: 12). وقال مالك بن دينار: "قرأت في بعض كتب الله: أنَّ الحِكْمَة تزيد الشَّريف شرفًا، وترفع المملوك حتى تُجْلِسه مجالس الملوك" (الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه، لأبي هلال العسكري).
- ولمَ لا؟ والحكمة أصل وأساس في منهج الدعوة إلى الله، وهي أبرز صفات الداعي الناجح: قال -تعالى- توجيها لسيد الدعاة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل:125). وعن ابن عباس قال: ضمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره وقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ) (رواه البخاري).
(2) أقسام الحكمة:
تنقسم الحِكْمَة من حيث الأصل إلى قسمين:
- حِكْمَة فطريَّة: يؤتيها الله -عز وجل- من يشاء، ويتفضَّل بها على مَن يريد: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: "إنَّ الحِكْمَة ليست عن كِبَر السِّن، ولكنَّه عطاء الله يعطيه من يشاء" (الإشراف في منازل الأشراف).
- حِكْمَةٌ مكتسبةٌ: يكتسبها العبد بفعل أسبابها، وترك موانعها، فيسهل انقيادها له، وتجري على ألفاظه التي ينطق بها، وتكتسي بها أعماله التي يفعلها، ويشهدها النَّاس على حركاته وسكناته. وسيأتي الحديث عن طرق اكتساب الحكمة.
(3) نماذج من الحِكْمَة في حياة الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام-:
1- من حِكْمَة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-:
- حكمته -صلى الله عليه وسلم- في سرية الدعوة في أول المرحلة المكية: (للحفاظ على الدعوة الناشئة وصيانتها من الهلاك والدمار، وحتى تتكون الجماعة المؤمنة التي يستطيع أصحابها الصبر والصمود أمام هذه الابتلاءات القادمة لا محالة).
- حكمته -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع اختلاف قواعد الكعبة: عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ وَلَبَنَيْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ) (رواه البخاري).
2- من حِكْمَة نبيِّ الله سليمان -عليه السلام-:
- حكمته -عليه السلام- في القضاء: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) (متفق عليه).
(4) نماذج من حِكْمَة السلف -رضي الله عنهم-:
1- حكمة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يوم وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- خرج، وعمر -رضي الله عنه- يكلِّم النَّاس، فقال: اجلس. فأبى، فقال: اجلس. فأبى، فتشهَّد أبو بكر -رضي الله عنه-، فمال إليه النَّاس، وتركوا عمر، فقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-، فإن محمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-: قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يموت؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144). قال: والله لكأنَّ النَّاس لم يكونوا يعلمون أنَّ الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر -رضي الله عنه-، فتلقاها منه النَّاس، فما يُسْمَع بَشَرٌ إلَّا يتلوها" (رواه البخاري).
2- حكمة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
- حكمته -رضي الله عنه- في موافقة نزول الأحكام: قال عمر -رضي الله عنه-: "وافقت ربِّي في ثلاث، قلتُ: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مُصَلًّى؟ فنزلت: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة: 125). وقلتُ: يا رسول الله، إنَّ نساءك يدخل عليهن البَرُّ والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساؤه في الغَيْرة، فقلت لهن: (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) (التَّحريم: 5). قال: فنزلت كذلك" (متفق عليه).
3- حكمة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-:
- حكمته -رضي الله عنه- في جمع القرآن: "فقد أمر الصحابة إذا اختلفوا في شيء عند جمع القرآن أن يكتبوه بلغة قريش، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصُّحف في المصاحف، ردَّ عثمان الصُّحف إلى حفصة -رضي الله عنها-، وأرسل إلى كلِّ أُفُقٍ من الآفاق بمصحف ممَّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفة أو مصحف أن يُحرق" (رواه البخاري).
4- حكمة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-:
- من حكمته -رحمه الله- في إقامة العدل في الناس: أنه لما تولي الخلافة، كان ابنه عبد الملك شابًا تقيًّا متحمسًا، ينكر على أبيه عدم إسراعه في إزالة كل بقايا الانحراف لمن كانوا قبله فقال يومًا: "مالك يا أبتِ لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق"، فكان جواب الأب الحكيم: "لا تعجل يا بني، فإن الله -تعالى- ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة" (ينظر الموافقات للشاطبي).
(5) من وسائل اكتساب الحكمة:
1- كثرة التَّجارب والاستفادة من مدرسة الحياة؛ ولذا فالحكمة تزداد بالسن مع التجارب: ففي الحديث: (لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) (متفق عليه). وروي مرفوعًا: "لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ" (رواه الترمذي، وضعفه الألباني).
2- إحسان العبادة لله -سبحانه-، والبعد عن المعاصي، وطرد الهوى: فعن الحسن -رحمه الله- قال: "من أحسن عبادة الله في شبيبته، لقَّاه الله الحِكْمَة عند كِبَر سنِّه، وذلك قوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص: 14)" (المجالسة وجواهر العلم، للدينوري). وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "لكلِّ باب مفتاح، ومفتاح الحِكْمَة: طرد الهوى" (التبصرة).
3- التَّفقه في الدِّين، وهو من الخير الكثير الذي أشارت إليه الآية: قال -تعالى-: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة: 269).
4- استشارة ذوي الخبرة والتَّجربة من الصَّالحين؛ ليزداد بصيرة بالعواقب.
5- التَّحلِّي بالصَّمت عمَّا لا فائدة فيه، فالحَكِيم يُعرف بالصَّمت وقلَّة الكلام، وإذا تكلَّم تكلَّم بالحقِّ، وإن تلفَّظ، تلفَّظ بخير أو سكت: قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) (متفق عليه). وقد قال وهب بن منبه: "وأجمعت الحُكَماء على أنَّ رأس الحِكْمَة: الصَّمت" (الصمت، لابن أبي الدنيا). وقيل: "زَيْن المرأة: الحياء، وزَيْن الحكيم: الصمت" (حسن السمت في الصمت للسيوطي).
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.