كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- من الأخلاقيات الكريمة المنشودة: "خلق الحياء": قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإسلام الْحَيَاءُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
- تعريف الحَيَاء: "الحَياء خُلُقٌ يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ" (قاله الحافظ في الفتح). وقيل هو: "تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومحلُّه الوجه" (التبيان في تفسير غريب القرآن).
ويدل عليه قول أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ" (متفق عليه).
- ما أحوجنا إلى نشر خلق الحياء في زمان قَلَّ فيه الحياء، وربما انعدم عند بعض الناس: (مظاهر قلة الحياء في الأقوال والأفعال والسلوك، تنتشر وتسري كالنار في الهشيم)(1).
مكانة الحياء في الدين:
- عرفت العرب في جاهليَّتها هذا الخلق، فكانوا ذوي مُروءة واستحياء: (أبو سفيان قبْل إسلامه يسأله هرقل ملك الروم عن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فأجابه بما علم من حال النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقال: "فَوَاللهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ" متفق عليه).
- ثمَّ جاء الإسلام، فأمر بالحياء وحثَّ عليه، وحضَّ الناس على لزومه والتخلُّق به: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإسلام الْحَيَاءُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ) (متفق عليه). وقال: (الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ) (رواه مسلم). وقال: (وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- بل شرع الإسلام أحكامًا خاصة للمرأة اعتبارًا للحياء: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: (أَنْ تَسْكُتَ) (متفق عليه).
- لذا كان نبي الإسلام هو أعظم الناس حياء: قال أبوسعيدٍ الخدري -رضي الله عنه-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ" (متفق عليه). وقال -تعالى-: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) (الأحزاب: 53)، قال الشوكاني -رحمه الله-: "أي: يسْتَحْيِي أن يقول لكم: قوموا، أو اخرجوا" (فتح القدير).
- فالحياء خلق وسمت الصالحين والصالحات: قال -تعالى- في قصة نبي الله موسى -عليه السلام-: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص: 25)، قال مجاهد: "يعْني: واضعةً ثوبها على وجهها، ليست بخرَّاجةٍ ولا وَلَّاجةٍ" (تفسير مجاهد).
أنواع الحياء:
- ينقسم الحياء باعتبار مجالاته إلى ثلاثة أنواع:
1- الحياء من الله:
عَنْ سَعِيدِ بنِ يَزِيدَ الأَزْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْصِنِي، قَالَ: (أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِييَ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، كَمَا تَسْتَحِيي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ). قَالوا: إِنَّا لَنَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: (لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وقال -تعالى-: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) (النساء:108)، وفي الحديث: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
2- الحياء من الناس:
عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: "لا خير فيمن لا يستحيي من الناس"، وقالت العرب في تمدحها بالحياء: "من كساه الحياء ثوبه لم يَرَ الناس عيبه"، وفي حديث أبي سفيان -رضي الله عنه-: "فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ" (متفق عليه).
3- الحياء من النفس:
- وهذا أكمل أنواع الحياء؛ لأن مَن استحى مِن نفسه كان استحياؤه من غيره أجدر، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما حياء المرء مِن نفسه: فهو حياء النُّفوس الشَّريفة العزيزة الرَّفيعة مِن رضاها لنفسها بالنَّقص وقناعتها بالدُّون، فيجد نفسه مستحيًا مِن نفسه حتى كأنَّ له نفسين يستحيي بإحداهما مِن الأخرى، وهذا أكمل ما يكون مِن الحَيَاء؛ فإنَّ العبد إذا استحيا مِن نفسه فهو بأن يستحيي مِن غيره أجدر" (مدارج السالكين).
نمَاذِجُ مُشرِقَةٌ مِنَ الحَيَاءِ:
1- أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا-: عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: (يُرْخِينَ شِبْرًا) فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ! قَالَ: (فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(2).
2- المَرْأَةُ السَّودَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا: عَنْ عَطَاءَ بنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا-: أَلَا أُرِيْكَ امرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّودَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي؛ قَالَ: (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ) فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. (متفق عليه)(3).
3- حياء أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: قالت: "كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي، فَأَضَعُ ثَوْبِي، وَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ، فَوَاللهِ مَا دَخَلْتُهُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي، حَيَاءً مِنْ عُمَرَ" (رواه أحمد، وصححه الألباني)(4).
4- حياء عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: قالت عائشة -رضي الله عنها-: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ! فَقَالَ: (أَلَا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ) (رواه مسلم)، وفي رواية لمسلم: (إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَنْ لاَ يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ).
خاتمة:
- الحياء خُلق من أسمى الصِّفات الإنسانيَّة وألطفِها، وأنْبلِ الأخلاق الإسلاميَّة وأشرفِها، حسبُك إن كنتَ ذامًّا أحدًا، أن تَسْلُب منه هذا الخلق: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ؛ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) (رواه البخاري).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "خُلقُ الحياءِ من أفضل الأخلاق وأجلِّها، وأعظمِها قدرًا، وأكثرِها نفعًا، بل هو خاصة الإنسانية، فمَنْ لا حياءَ فيه ليس معه من الإنسانية إلاَّ اللحم والدم وصورتهم الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء" (مدارج السالكين).
وقال الشاعر:
فَـلا وَاللَّهِ مَا فِي العَـيْشِ خَـيـْرٌ وَلا الـدُّنـْيـَا إِذَا ذَهَـبَ الحـَـيَاءُ
يَعِيشُ المَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَـيْرٍ وَيَـبْـقَى العُودُ مَا بَقِيَ الـلِّحَاءُ
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إنَّ الحديث عن خلُق الحياء ليتأكَّد في هذا العصْر؛ الَّذي تحارَب فيه الأمَّة في أخلاقها حربًا لا هوادةَ فيها، قنوات تصبِّح النَّاس وتمسيهم ببرامج ومشاهدَ تدمِّر الأخلاق، وتمزِّق الحياء، وتطبِّع الرَّذيلة، وتغرِّب المجتمع في سلوكه وأخلاقيَّاته، وطبعه وعاداته، ثمَّ لا تسَلْ بعد ذلك عن هُموم شبابِنا واهتِماماتهم، وثقافة أبنائِنا وسطحيَّة أفكارهم.
(2) لَمْ تَرْضَ -رضي الله عنها- أَنْ يُرْخَى الثَّوْبُ شِبْرًا يُجَرْجِرُ فِي الأَرْضِ؛ خوفًا أن تنكشف الأقدام! وَلَكِنَّ نساء هَذَا الزَّمَانِ رَضِيْنَ منهن مَن رضيت بِهَذَا الشِّبْرِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ شِبْرًا يُجَرْجِرُ فِيْ الأَرْضِ، لَكِنَّهُ شِبْرٌ فَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(3) فأين نسوة هذا الزمان من هذه المرأة؟ أين نسوة هذا الزمان اللاتي يكشفن عوراتهن باختيارهن للناس أجمعين؟!
(4) فأين نسوة هذا الزمان من ذلك؟ أين نسوة هذا الزمان اللاتي يكشفن عوراتهن، ويلبسن الضيق من الثياب أمام الأولاد البالغين، وغيرهم؟