كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
الفائدة الحادية عشرة:
قوله -تعالى-: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ): دَلَّ على أن الله يجمع لعبده المؤمن سعادة الدنيا والآخرة، والإيمان سبب الحياة الطيبة، ومن ذلك الذكر الحسن الباقي بعد موته وحب الناس له عبر الزمان، بل إنه راحة في الدنيا والآخرة، والكفر شقاء وتعاسة في الدنيا والآخرة؛ قال -تعالى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 123-127).
وقال -تعالى-: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ . إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (فاطر: 19-23).
فقوله -تعالى-: (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) فالظل حال المؤمن في الدنيا وفي القبر ويوم القيامة، والحرور حال الكافر في الدنيا والقبر ويوم القيامة، فالناس يقبلون على الشهوات المحرمة ويتبعون الشبهات المضلة طلبًا لسعادة وهمية؛ لذة عابرة كسحابة صيف، أو كطيف زار في المنام ثم تبيَّن أنه مجرد خيال لا حقيقة له؛ فأين هذا من الفرح الذي تحدثه العبادة للمؤمن؟! قال الله -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58).
فالله -عز وجل- فطر القلوب على الفرح والراحة والسعادة عند عبادته وذكره والتحنث له والميل إليه سبحانه ومحبته، بل لا تستغني عن محبته وقربه وعبادته طرفة عين؛ إلا عندما يغيب العقل في النوم لضرورة البشرية في هذه الدنيا، وإنما تكون المعاصي كالسكرة: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر: 72)، وهي كالمواد المخدرة كلها تشعل مخ الإنسان باكتفاء غير حقيقي باللذة الوهمية، وربما أدَّت إلى الموت البدني بالفعل بوهمٍ كاذبٍ لمركز التنفس بالمخ بوفرة الأكسجين في الدم، فلا يطلب تحريك عضلات التنفس، ويحدث الفشل التنفسي فيموت البدن، وقد مات القلب قبله بشهوة وهمية، ولذة وقتية غلبت على القلب؛ فألقت عنه إدراكه للهدى والنور، وألغت عنه رغبته الدفينة في غذائه وشفائه الذي يطلبه دائمًا أحياء القلوب من الوحي المنزَّل.
فالشفاء للأمراض، والغذاء لحياة القلب بالحب والقرب، والرضا، والخوف والرجاء، والتوكل والإنابة، والتوبة، والافتقار، وغيرها من أعمال القلوب: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ? وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82).
فإذا كان هذا يجده المؤمن: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ? وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)؛ فكيف بالخليل الذي امتلأ قلبه بالحب لله حتى تخلل شغاف قلبه؟! فاتخذه الله خليلًا؛ لعظيم محبته -سبحانه- له، وخصه بنوع خاص من محبته -عز وجل- هي الخلة؛ التي لم يسمِّ بها بعده إلا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، حتى قال إبراهيم -عليه السلام-: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم).
وهناك قَدْر مشترك من حبِّ الله في قلب العبد المؤمن يعقبه حب الله للعبد، وذلك بكونه من الصالحين؛ قال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) (رواه البخاري).
وليس هذا من الوحدة في شيء -كما يقوله الزنادقة المنافقون!-، بل هذا معناه: أن يكون سمع العبد وبصره ويده ورجله كلها لله إخلاصًا، وبه استعانة، كما روي: "فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي"؛ أي: بحول الله وقوته، وليس أنه يصير عين الله!
والدليل على ذلك: قوله: (وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ) فهناك سائل ومسألة ومسؤول، (وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ): فهناك مستعيذ واستعاذة ومستعَاذ به؛ فأنى يسمَّى ذلك وحدة؟! نعوذ بالله.
وإنه لمن أعظم الشرف للصالحين أن يخبر الله -عز وجل- عن إبراهيم أنه منهم، كما قال -تعالى-: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وكذا شرف للمؤمنين والمحسنين قوله -تعالى- عن إبراهيم: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (الصافات: 109-111).
فليحرص العبد على هذا القدر المشترك، وليزدد منه ما استطاع ليقترب بروحه من هؤلاء الأنبياء والمرسلين والصالحين؛ لينال حسنة الدنيا، ويكون في الآخرة من الصالحين.
اللهم ألحقنا بالصالحين واجعلنا في الندي الأعلى.