كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الواجب على المسلم أن يتبع الدليل من الكتاب والسُّنة أينما سار؛ أي: يجرِّد نفسه للحق دون أي أهواء أو تقليد لغيره الذي قد يكون على باطلٍ، ومن هنا: فإن التقليد في الإسلام لا يكون إلا في دائرة ضيقة جدًّا؛ عندما يكون الإنسان بلا علم في مسألة ما من المسائل.
فالتقليد غير واجب؛ لا في الأصول، ولا في الفروع، وهذا بخلاف ما زعمه بعض الشيعة من أن التقليد واجب في الفروع دون الأصول، والشيعة على مرِّ العصور يريدون هدم أصول السنة بما يزعمونه من أصول مبتدعة مثل قولهم الآنف، وكما افترى بعضهم حينما جعل الصحابة لهم غرضًا، فزعم أنهم تعمدوا مخالفة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في رَزيَّة يوم الخميس، وقالوا عنه: إنه أهجر أي: خرف! بل وزعم أن شبهته تلك من الممكن أن تهدم المذهب السني كله!
ونحن بدورنا نوضح ذلك لمن يجهله من أبناء السُّنة، ولكن قبل توضيح ذلك يجب أن نؤكد على مبدأ مهم لا يسع أحد أن يتجاوزه؛ وهو: عدم جواز الطعن في الصحابة -رضي الله عنه-.
وذلك لعدة أسباب:
أولًا: لأنها قضية إيمان وكفر: فقد صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ: المُوَالاةَ فِي اللهِ وَالمُعَادَاةُ فِي اللهِ، والحبُّ فِي اللهِ والبُغْضُ فِي اللهِ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)؛ فحب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إيمان، وبغضهم كفر.
ثانيًا: لأن التشكيك في الصحابة تشكيك في القرآن الكريم ذاته؛ حيث مدح الله -تعالى- الصحابة، فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:8-10).
وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) إشارة إلى أهل السنة والجماعة الذين سلمت صدورهم تجاه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقال -أيضًا- عن المهاجرين والأنصار: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100).
فكيف يرضى الله عنهم وهو يعلم أنهم سيفسقون، ويرتدون، ويغيِّرون إرادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟!
بل وجعلهم الله -أيضًا- شهداء على الأمم، فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة:143).
وذكر أيضًا أن ما آمن به الصحابة هو الحق، فقال -تعالى-: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137).
وحتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- شهد لهم بأنهم أفضل الناس؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النَّاسِ: قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه)؛ فكيف لعاقلٍ أن يتصور أن تكون دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- فاشلة، وبمجرد موته خالف أتباعُه وصيتَه، وتآمروا عليه كما يقول الشيعة؟!
بل هم الذين رباهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على عينه، ناهيك عن مناقب أصحابه بالتخصيص؛ فأبو بكر -رضي الله عنه- مثلًا مذكور في القرآن بالثناء الجميل؛ قال -تعالى-: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة:40)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا في مناقب أبي بكر: (سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ -باب صغير- فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ) (متفق عليه).
بل وخطب النبي -أيضًا- قبل وفاته بأربعة أيام، وقال: (وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ) (متفق عليه)، وهناك مناقب أخرى كثيرة لجميع أصحابه.
ولنعد لموضوع رزية يوم الخميس: في "الصحيحين" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: (هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّونَ بَعْدَهُ). فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ. فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاِخْتِلاَفَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (قُومُوا). قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ".
وزاد البخاري في روايته أن بعض الصحابة -وليس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قالوا: "أَهَجَرَ" بمعنى أنه -صلى الله عليه وسلم- يتكلم بكلام لا يفهمه البعض.
وذكر النووي والسيوطي والقاضي عياض رواية: "أَهَجَرَ" بالهمز أي: بالاستفهام اعتراضًا على من رفض الكتابة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، أي: هل يمكن أن يهذي حتى تمنعوا عنه دواة؛ ليكتب لنا الكتاب؟!
فلفظ: "أَهَجَرَ" لا يحمل على: "خرف" -كما تقول الشيعة!-؛ فله معانٍ متعددة، والرد على هذا أن هذا الأمر ربما كان مستحبًا، بدليل أنه لو كان أمرُ توثيق الخلافة لأحد الصحابة أمر من السماء أو واجب؛ لما سكت الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو المبلِغ عن ربِّه -سبحانه وتعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3).
فهل يعقل أن يكون الرسول ترك أمرًا واجبًا وقصَّر في أدائه؟! فالصحيح أن هذا الأمر ربما كان مستحبًا بدليل سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه بعد ذلك.
ومن شبهات الشيعة كذلك حول توثيق الخلافة: ما يتمسكون به من قوله -صلى الله عليه وسلم- في علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في خطبة "غدير الخم" حينما قال: (مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ؛ فَعَلي مَوْلاَهُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
فجعلوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بمنزلة النصِّ على إسناد الخلافة لعلي -رضي الله عنه- من بعده، وغفلوا عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في أبي عبيدة -رضي الله عنه- أنه: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) (متفق عليه)، فهل كان يعني أنه الخليفة؟ بالطبع لا، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي بعض المناقب والفضائل لأصحابه؛ لأنهم هم الذين حموا بيضة الإسلام في الصدر الأول للدعوة وهي وليدة.
ثم ثانيًا: لفظ الولي يأتي في اللغة بمعانٍ متعددة، ولو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقصد الخلافة لعلي، فهل يعقل أن يكون علي -رضي الله عنه- ظل صامتًا عن الحق خمسًا وعشرين سنة هي مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-؟!
أظن أن أي عاقل يمكنه أن يستنتج ذلك.
ومن شبهاتهم كذلك: تمسكهم بحديث "الثقلين"، وليس لهم فيه مستمسك؛ فالحديث صحيح لم ينكره أحدٌ من أهل السُّنة، ونذكره دائمًا في دروسنا وخطبنا، حتى إن ابن تيمية -رحمه الله- جعله دليلاً على حجية إجماع أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو معنى الحديث؛ فحينما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، ذكر علماء أهل السنة أن المقصود هو الوصية بأهل بيته خيرًا، فليس المقصود بالجمع بين الاثنين أنهما في منزلة واحدة، فمعلوم أن كتاب الله هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آخر لحظات حياته قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى: (الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني)، فهل معنى هذا أن: (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) تأتي في منزلة واحدة مع الصَّلاَةَ؟ بالطبع لا.
فالعجب ممن يفهم هذه الأدلة على غير وجهها، ثم يزعم أن للشيعة حظًّا من الاستدلال بها!
بل ويبالغ بعض المضلِّين فيزعم أنه تشيع بسبب تلك الأدلة، بل الصحيح أنه يأخذ بعض الفتات من البخاري ومسلم؛ ليشكك المسلمين في دينهم، ونحن نقول له: إذا كنت تقبل كلام البخاري؛ فخذه كله، وانظر لكلام البخاري عن الصحابة الذين تلعنهم.
فليس للشيعة مستمسك في شيء من تلك الأدلة، وليس لهم في ذلك دليل ولا شبهة دليل؛ فتأويلهم لها غير مقبول، وليس مما يسوغ عند أهل السُّنة، حتى وإن كانت بعض تلك الأدلة ظنية؛ فإن الأدلة الظنية كلها في المجموع تدعم بعضها؛ لتصل إلى قطعية الدلالة، ثم إن إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- دليل قطعي على أن ما فعلوه هو الحق.
فالشيعة مبتدعة ضُلَّال حتى وإن تمسَّكوا بما يظنونه دليلًا على بدعهم.
وعلى أهل العلم أن يبيِّنوا للناس ما يتشبث به الشيعة من تلك الشبهات، وهذا الدور -بحمد الله- برز فيه كثير من العلماء السلفيين الذين ما فتئوا يبينون عقائد الشيعة وخطرها في هدم الكيان السني، بل وقفوا في جانب كلِّ مَن قام بهذا الدور ممَّن لا ينتسب للسلفية، وآخرهم الدكتور يوسف القرضاوي؛ الذي نحمد له موقفه في التحذير من المد الشيعي، وهذا جزء من الدور الكبير الذي تحمَّلَه السلفيون؛ لتعبيد الناس لربهم وإرجاعهم إلى المنهج الحق.
والحمد لله رب العالمين.