كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمما تعرضت له دعوى دولة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل: حالة المجاعة الشديدة التي يتعرض لها كل سكان قطاع غزة؛ نتيجة الحصار الصارم من قوات الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، وتعمدها منع دخول الطعام والماء للقطاع، إلى جانب منع دخول الوقود والإمدادات والمساعدات الطبية، بما يعني تعرض سكان القطاع جميعًا، والذين يزيد عددهم عن المليونين لخطر الموت جوعًا بلا رحمة.
ورغم أن هناك فترات من تخفيف الحصار وسماح بإمدادات من الطعام والماء والوقود، لكن يظل هذا السماح لعدد من شاحنات المساعدة بدخول القطاع غير كافٍ لاحتياجات هذا العدد الكبير من السكان؛ فهو أقل بكثير من الاحتياجات الدنيا المطلوبة.
ومما يزيد من حجم الأزمة -بالإضافة إلى قلة أعداد شاحنات المساعدة التي يسمح على فترات بدخولها القطاع-:
- نقص الوقود الشديد؛ مما يؤثر وبشدة على عمليات نقل هذه المساعدات المحدودة داخل القطاع بعيدًا عن نقاط الدخول.
- القصف الشديد والأعمال العدائية، والقيود الإسرائيلية على حرية الحركة، وانقطاع الاتصالات وتدمير البنية التحتية من طرق وشوارع يجعل من المستحيل وصول تلك المساعدات على قلتها لكل أو معظم المحتاجين.
- إن مطالبة قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 22 ديسمبر 2023 بسماح أطراف النزاع بتيسير استخدام جميع الطرق المتاحة عبر قطاع غزة بأكمله بما فيها المعابر، ومطالبة منسق الأمم المتحدة بإنشاء آلية تابعة للأمم المتحدة وبشكل سريع لتسريع تقديم شحنات الإغاثة الإنسانية أمر غير فعال؛ لأنه لا يعالج بشكل صحيح العناصر الأربعة الضرورية التي حدَّدها الأمين العام للأمم المتحدة للسماح بتقديم مساعدة فعالة قادرة على مساعدة الفلسطينيين، وتتضمن:
- الحاجة إلى توفر الأمن: بعيدًا عن القصف الشديد والقتال النشط في مناطق حضرية مكتظة بالسكان بما يهدد حياة المدنيين وحياة عمال الإغاثة.
- الحاجة إلى وجود موظفين يمكنهم العيش والعمل بأمان: فلقد قتل نحو 136 من موظفي الأمم المتحدة في غزة خلال 75 يومًا، وهذا شيء لم يُرَ من قبل في تاريخ الأمم المتحدة.
- الحاجة إلى توفير اللوجستيات: فلقد تم تدمير العديد من مركبات وشاحنات الإغاثة أو تركها عند الإجلاء القسري من شمال غزة، ولم تسمح القوات الإسرائيلية بتشغيل أي شاحنات إضافية في غزة، مما يعيق أعمال الإغاثة وتوصيل الإمدادات؛ هذا إلى جانب خطورة توصيل الإمدادات بسبب النزاع النشط والذخائر غير المنفجرة، والطرق التي تضررت بشدة في كل مكان.
- الحاجة إلى استئناف الأنشطة التجارية في غزة: حيث تضع القوات الإسرائيلية القيود على النشاط التجاري في غزة، فلا يعمل إلا مخبز واحد، ولا يوجد في غزة الكثير لشرائه حتى مع تكثيف الدعم المادي للعائلات الضعيفة.
- لقد تسببت الضربات الإسرائيلية في تدمير المخابز ومنشآت المياه والطاحونة الوحيدة المتبقية التي كانت تعمل، وتم تدمير مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية وما فيها من المحاصيل والبساتين والصوبات الزراعية. إنه بحلول شهر نوفمبر 2023 صارت بنية الغذاء في غزة غير فعالة بالفعل، نظرًا لإغلاق الأسواق والمتاجر ونقص العناصر الغذائية الأساسية وارتفاع أسعار الأغذية القليلة المتوفرة، فالخبز نادر أو غير موجود، والمواشي التي لم تقتل تواجه أيضا المجاعة.
- إن قياس فعالية الإغاثة الإنسانية في غزة استنادًا إلى عدد الشاحنات التي يسمح الهلال الأحمر المصري أو الأمم المتحدة وشركاؤها بتفريغها عبر الحدود خطأ، فإن المشكلة الحقيقية في العوائق الهائلة أمام توزيع المساعدات الغذائية داخل غزة.
- إن عدم صدور قرار بوقف إطلاق النار يعد بمثابة ضوء أخضر لاستمرار الإبادة الجماعية في غزة.
- إن إسرائيل تدفع السكان الفلسطينيين في غزة إلى حافة المجاعة رغم تحذيرات الوكالات الدولية من أن خطر المجاعة في غزة خطر حقيقي، وأنه يزداد كل يوم، وأن أغلب الفلسطينيين في غزة يتضورون جوعًا، وأن مستويات الجوع ترتفع يوميًّا.
وقد وصف المفوض العام للأونروا الفلسطينيين في غزة بأنهم يائسون وجائعون ومرعوبون، وأنهم يوقفون شاحنات الإغاثة، ويأخذون الطعام ويأكلونه فورًا، بينما صرحت منظمة الصحة العالمية أن نسبة غير مسبوقة تبلغ 93% من سكان غزة يواجهون مستويات أزمة من الجوع مع عدم كفاية الغذاء، ووجود مستويات عالية من سوء التغذية حتى في المستشفيات.
وقد اضطرت أسر لبيع ممتلكاتها واتخاذ إجراءات أخرى لتحصل على وجبة بسيطة، وقد حذر المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان من أن المجاعة لا يجب أن تكون وسيلة أو نتيجة للحرب.
- وقد اتهمت منظمة (هيومن رايتس ووتش) إسرائيل صراحة باستخدام الجوع كسلاح حرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
- كما أن المياه منخفضة بشكل كبير مع قطع المياه عن غزة؛ خاصة أن محطة تحلية المياه صارت لا تعمل، ويؤثر نقص المياه بشكل خطير على النساء المرضعات اللاتي يحتجن إلى تناول الكثير من الماء، وقد توقفت الكثير من الأمهات الشابات عن الرضاعة الطبيعية بسبب ندرة الغذاء والماء، وأجبرن على استخدام مياه ملوثة لتحضير الحليب الصناعي إذا توفر، مما يعرض أطفالهن لخطر الأمراض، وذكر أنهم يموتون بالفعل من أسباب كان من الممكن تجنبها؛ هذا بينما يعاني الأطفال الأكبر سنًّا من أعراض سوء التغذية، فهناك أكثر من 7600 طفل في غزة يعانون من الهزال المهدد للحياة، إلى جانب خطر الإصابة بالأمراض المعدية نتيجة التوقف عن التطعيمات الأساسية التي يحتاجونها.
إن عشرات الألوف من الفلسطينيين في غزة يعيشون وينامون في الساحات والشوارع؛ إذ لا يوجد سكن لهم ولا أقرباء، ولا مكان لهم في المرافق الحكومية وساحات المستشفيات، وهم يعانون من النقص الحاد في الملابس الدافئة والفرش والأغطية؛ لذا فهم يحرقون الخشب والبلاستيك والنفايات للتدفئة والطهي، مما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض التنفسية.
الحرب الإسرائيلية على المنظومة الصحية:
كان الهجوم الإسرائيلي على المنظومة الصحية في قطاع غزة أكثر من أي شيء آخر، ومعلوم أن الرعاية الطبية ضرورية للحياة.
لقد أعلنت القوات الإسرائيلية حربًا بلا هوادة على النظام الصحي في غزة، وهو ما أشار إليه المقرر الخاص للأمم المتحدة -حول الحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة البدنية والعقلية- بقوله: (إن البنية التحتية الصحية في قطاع غزة قد دمرت بالكامل)، و(نحن شهود على حرب مخزية ضد العاملين في مجال الرعاية الصحية).
وفي رسالة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتاريخ 4 ديسمبر 2023 كتب الرئيس الدولي لمنظمة أطباء بلا حدود: (لقد أظهرت إسرائيل تجاهلًا صريحًا وكليًّا لحماية المنشآت الطبية في غزة، نحن نشاهد المستشفيات تتحول إلى مشارح وأنقاض، تتعرض هذه المنشآت -المفترض أن تكون محمية- للقصف وإطلاق النار من الدبابات والبنادق وتحاصر وتداهم مما يؤدي إلى مقتل المرضى والطاقم الطبي. وقد وثقت منظمة الصحة العالمية 203 هجمة على الرعاية الصحية أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 22 شخصًا وإصابة 59 من العاملين في مجال الصحة أثناء الخدمة. الطاقم الطبي -بما في ذلك طاقمنا- مرهق تمامًا ويائس، لقد اضطروا إلى بتر أطراف للأطفال الذين يعانون من حروق شديدة بدون تخدير أو أدوات جراحة معقمة، بسبب الإخلاء القسري من قِبَل الجنود الإسرائيليين اضطر بعض الأطباء إلى ترك المرضى وراءهم بعد مواجهة اختيار لا يمكن تصوره بين حياتهم أو حياة مرضاهم. لا يوجد مبرر للهجمات الفظيعة على الرعاية الصحية.. قتل أربعة من طاقمنا في منظمة أطباء بلا حدود، فقد العديد آخرون من أفراد عائلاتهم، أصيب العديد من الزملاء الآخرين.. أبلغت منظمات إنسانية عن مقتل العشرات من طاقمها.. يتم محو شمال غزة من الخريطة.. انهار النظام الصحي.. أبلغ فريق الطوارئ لدينا في خان يونس جنوب غزة عن تدفقات هائلة للجرحى بعد قصف عنيف، وصل السبت الماضي 60 قتيلًا و213 جريحًا إلى غرفة الطوارئ في مستشفى الأقصى، تضرب هذه الغارات أيضا مخيمات اللاجئين المكتظة، حيث يكافح الناس للبقاء على قيد الحياة بالمساعدات الإنسانية القليلة المتاحة، إذا لم تصلهم القنابل فسوف تصلهم الأمراض المعدية والجوع).
منذ أوائل ديسمبر 2023 ازدادت هجمات الجيش الإسرائيلي على المستشفيات الفلسطينية، استمر الجيش الإسرائيلي في مهاجمة وحصار المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية لحرمانهم من الكهرباء والوقود الضروريين للحفاظ على الأداء الفعال، ولعرقلة وصول المستلزمات الطبية والطعام والماء لإجبارهم على الإخلاء والإغلاق، وبشكل فعال تدميرهم. شمال غزة دون أي مستشفى يعمل لمدة أسبوع، لديه فقط أربعة مستشفيات متحدية بشدة وتعمل جزئيًّا.
لقد حولت إسرائيل المستشفيات الفلسطينية في غزة من أماكن للشفاء إلى أماكن موت، ومسارح للمجزرة، الموت والدمار واليأس. أصبح العديد من المستشفيات الآن مجرد أماكن ينتظر فيها الناس الموت، وتصف منظمة الصحة العالمية الوضع بأنه لا يمكن التصديق عليه، ولا يصدق.
- استهدف الجيش الإسرائيلي مولدات المستشفيات، والألواح الشمسية للمستشفيات، ومعدات أخرى حيوية؛ مثل: محطات الأكسجين، وخزانات المياه؛ كما استهدف سيارات الإسعاف والقوافل الطبية والمسعفين الأوائل. من بين القتلى بعض من أكثر الأطباء خبرة ومهارة في غزة، بما في ذلك الدكتور (هاني الهيثم) رئيس قسم الطوارئ في مستشفى الشفاء، الذي قتل مع زوجته الدكتورة (سميرة غيرافي) وأطفالهما، الدكتور (محمد دبور) رئيس قسم علم الأمراض في مستشفى الشفاء، قتل على ما يبدو مع ابنه ووالده أثناء محاولتهم الفرار. الدكتور (مدحت سعيد) م. جراح تجميلي للحروق في مستشفى الشفاء.
الدكتور (حمام الله) أخصائي كلى في مستشفى الشفاء، الذي قتل في هجمات على منازل عائلتهم، في مقابلة قبل وفاته بوقت قصير، ردَّ الدكتور على السؤال: لماذا لا يفر من الشمال إلى الجنوب؟ قائلًا: إذا ذهبت فمن سيعالج مرضاي؟ نحن لسنا حيوانات، لدينا الحق في تلقي الرعاية الصحية المناسبة، تعتقد أنني درست الطب وحصلت على درجات عليا لمدة 14 عامًا لأفكر فقط في حياتي وليس مرضاي؟
إن الدمار الممنهج للمستشفيات الفلسطينية، وقتل الأطباء الفلسطينيين المتخصصين لا يؤثر فقط على رعاية الفلسطينيين في غزة حاليًا، بل يقوض أيضًا آفاق أي نظام رعاية صحية فلسطيني مستقبلي في غزة، مدمرًا قدرته على إعادة البناء الصحي كما يجب، وتقديم الرعاية الفعالة للشعب هناك.
لقد قتل المئات من الفلسطينيين في المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية في غزة من بينهم المرضى والنازحين، الذين سعوا دون جدوى للعثور على ملجأ آمن في أرض المستشفى أو بالقرب منها، وقتلوا بضربات إسرائيلية أو بطلقات القناصة، لقد قتلت الأمهات الفلسطينيات في مستشفيات الولادة، والأطفال الفلسطينيون في مستشفيات الأطفال، حتى أولئك الذين كانوا يعتنون بالموتى ويعدونهم -مثل: (سعيد الشربجي) مدير مشرحة مستشفى ناصر- قتلوا.
لقد مات فلسطينيون آخرون نتيجة مباشرة لقطع إسرائيل الكهرباء والوقود عن المستشفيات، من بينهم خمسة أطفال خدج و40 مريضًا في العناية المركزة ومرضى الكلى في مستشفى الشفاء.
لقد مات فلسطينيون آخرون نتيجة مباشرة لإجلاء المستشفيات القسري من قبل إسرائيل، بما في ذلك ما لا يقل عن أربعة رضع في مستشفى النصر، تم العثور على جثثهم الصغيرة بعد أسابيع -خلال وقف إطلاق النار المؤقت- وهي تتحلل في أَسِرَة المستشفى.
تم تحويل ساحات المستشفيات إلى مواقع للمقابر الجماعية!
في مستشفى الشفاء اضطر الأطباء أنفسهم إلى حفر مقبرة جماعية لجثث 179 مريضًا وآخرين متحللـة. وقامت الجرافات الإسرائيلية بحفر واستخراج مقبرة جماعية في مستشفى (كمال عدوان) المحاصر في 16 ديسمبر حيث دفن 26 فلسطينيًّا.
قال حسام أبو صفية رئيس خدمات الأطفال في مستشفى (كمال عدوان): (حفر الجنود القبور هذا الصباح وجروا الجثث بالجرافات، ثم سحقوا الجثث بالجرافات، لم أرَ مثل هذا الشيء من قبل).
لقد تم تجاهل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 27 أكتوبر 2023 الذي يدعو إلى احترام وحماية جميع المنشآت المدنية والإنسانية، بما في ذلك المستشفيات والمرافق الطبية الأخرى، وكذلك جميع الأفراد الإنسانيين والطبيين.
لم يتوقف الأمر فقط على قتل الأطباء والمسعفين، ولكن أيضًا الجمع والاختفاء على يد قوات الاحتلال، من بينهم المدير العام لمستشفى الشفاء وطاقمه، الذين تم القبض عليهم واحتجازهم دون تواصل منذ 24 أكتوبر 2023.
لقد اضطر الفلسطينيون إلى إجلاء مرضاهم والمعاقين والجرحى في مسيرة قسرية من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى أماكن أخرى، سحب أسرة المستشفيات خلف السيارات، دفع الكراسي المتحركة، رفعهم على نقالات مؤقتة - أو ببساطة حملهم على الأذرع.
توصف المستشفيات التي لا تزال تعمل بأنها مشاهد من فيلم رعب: النقص الحاد في الموظفين والإمدادات بما في ذلك أدوية التخدير والمسكنات والأدوية والمطهرات، أدى ليس فقط إلى بتر غير - ضروري للأطراف، ولكن أيضًا إلى بتر بدون تخدير غالبًا يتم إجراؤه بواسطة مصباح يدوي.
وتتعرض النساء الحوامل أيضًا لإجراء الولادات القيصرية بدون تخدير، يتم علاج المرضى على أرضيات متسخة مغطاة بالدماء، مع وقوف أفراد العائلة يمسكون بأكياس محلول ملحي حيثما كانت متاحة.
وهناك نقص في الموظفين والموارد للعناية الكافية بالجروح أو العناية بالجروح بعد العملية الجراحية. الجروح غير النظيفة، والتي غالبًا ما تكون موبوءة بالديدان والذباب، تصبح ملتهبة بسرعة، متعفنة أو متغرنة (متغرغرة) - يتوسل المرضى للحصول على الطعام والماء، حتى علاج الألم الأساسي غالبًا ما يكون غير متوفر، والمرضى معرضون لخطر الموت بسبب أمراض يمكن علاجها.
وصف أحد الأطباء الاضطرار إلى القيام بإجراءات دون تخدير فقال: (اضطررت إلى تغيير الضمادات على جروح كبيرة، جروح مؤلمة للغاية، كانت هناك فتاة تغطي جسدها بالكامل الشظايا، كان عمرها تسع سنوات، انتهى بي الأمر إلى تغيير وتنظيف هذه الجروح بدون مخدر ولا مسكن... كان والدها يبكي، وأنا كنت أبكي، والطفلة الفقيرة كانت تصرخ...).
يقدَّر أن هناك شهريًّا حوالي 5500 امرأة فلسطينية تلد كل شهر من إجمالي 52 ألف امرأة فلسطينية حامل، وهن يلدن في ظل الحرب القائمة في ظروف صعبة وغير آمنة فغالبا تتم الولادات بدون ماء نظيف، وبدون مساعدة طبية، وقد تتم في البيوت أو في الملاجئ أو الشوارع وسط الأنقاض، أو في مرافق الرعاية الصحية المزدحمة، حيث تتدهور الظروف الصحية ويزداد خطر العدوى والمضاعفات الطبية، وقد تخضع النساء الحوامل لعمليات قيصرية بدون تخدير..
ونظرًا لعدم وصول إمدادات طبية للحالات الحرجة، بما في ذلك أكياس الدم، يضطر الأطباء في حالات النزيف الرحمي بعد الولادة إلى إجراء استئصال للأرحام غير ضروري، خاصة للشابات الفلسطينيات في محاولة لإنقاذ حياتهن من خطر النزف، لكون ذلك هو الخيار الوحيد المتاح للواتي ينزفن بعد الولادة، ومما يجعلهن غير قادرات على الحمل والإنجاب للمزيد من الأطفال في المستقبل.
هذا بالإضافة إلى نقص للأدوية المهمة؛ مثل: حقنة (الأنتي - دي) التي تُعطَى للنساء السالبات لعامل (الريسوس) عند ولادة طفل إيجابي للريسوس، مما يؤثر وبشكل خطير على احتمالية الحمل الصحي في المستقبل للنساء المتأثرات. وقد زادت حالات الولادة المبكرة بنسبة تتراوح ما بين (25 - 35) في المائة حيث تتعرض النساء الحوامل للتوتر والصدمات النفسية والتحديات الصعبة؛ بالإضافة إلى الاضطرار للمشي لمسافات طويلة بحثًا عن الأمان، مع الازدحام الشديد في الملاجئ، في ظروف غالبا ما تكون غير نظيفة.
وقد زادت حالات انفصال المشيمة، وهي حالات خطيرة تحدث قرب أو مع الولادة وتهدد حياة الأم والطفل معًا. إن أعداد كبيرة من الأطفال حديثي الولادة يموتون لأسباب يمكن تجنبها بالكامل، أما الأطفال الخدج والأطفال قليلو الوزن فليس لهم فرصة كبيرة للبقاء على قيد الحياة.
وفي 3 نوفمبر 2023 حذرت منظمة الصحة العالمية من أن من المتوقع زيادة أعداد وفيات الأمهات بسبب نقص الوصول إلى الرعاية الكافية، مع عواقب قاتلة على الصحة الإنجابية، بما في ذلك زيادة حالات الإجهاض المستحثة بارتفاع ضغط الدم وحالات الولادات الميتة والولادات المبكرة، سيكون هذا التأثير بالضرورة طويل الأمد وشديد في غزة على الفلسطينيين.
وفي 22 نوفمبر 2023 حذرت المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن العنف ضد المرأة والفتيات من أن العنف الإنجابي الذي تسببت به إسرائيل للنساء والرضع والأطفال قد يعتبر أعمال إبادة جماعية بموجب المادة (2) من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، بما في ذلك فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات ضمن مجموعة. وأكدت أن على دول العالم أن تمنع وتعاقب مثل هذه الأعمال وفقا لمسئوليتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية.
فقد الرعاية الطبية الروتينية:
وفوق كل ما سبق، فهناك مئات الآلاف من الفلسطينيين في قطاع غزة ممن يحتاجون إلى الرعاية الطبية الروتينية فقدوا تلك الرعاية على أهميتها؛ مثل: مرضى ارتفاع ضغط الدم ومرضى القلب والأوعية الدموية ومرضى السكري ونحوهم من أصحاب الأمراض المزمنة، الذين يحتاجون على المداومة على الأدوية الخاصة بأمراضهم وعمل الفحوصات الدورية ومعالجة مضاعفات أمراضهم إن وجدت.
لقد تم توثيق أكثر من 360 ألف حالة من الأمراض المعدية المبلغ عنها في ملاجئ الأونروا وحدها، والتي تسببت فيها -أو تفاقمت- بسبب الظروف غير الصحة والجوع ونقص المياه النظيفة، مع اعتقاد أن الأعداد الفعلية أكثر من ذلك بكثير، حيث تشهد غزة معدلات متصاعدة من الأمراض المعدية. وقد تم الإبلاغ عن أكثر من 100 ألف حالة إسهال منذ منتصف أكتوبر، نصف هذه الأعداد من الأطفال الصغار دون سن الخامسة، وهي أعداد تزيد 25 مرة عما كان يبلغ عنه قبل بداية الحرب. وتم الإبلاغ عن أكثر من 150 ألف حالة التهابات الجهاز التنفسي العلوي، والعديد من حالات التهاب السحايا، والطفح الجلدي، والجرب والقمل والجديري المائي. وهناك حالات اشتباه في الإصابة بالتهاب الكبد، حيث ظهر العديد من الأشخاص يعانون من علامات اليرقان (الصفراء).
إن الجسم السليم يمكنه مقاومة هذه الأمراض ومكافحتها بشكل أسهل، أما الجسم الضعيف الهزيل فيجد صعوبة في ذلك، فالجوع يضعف دفاعات الجسم ويفتح الباب للأمراض الأخرى، وسوء التغذية تزيد من خطر وفاة الأطفال من أمراض الإسهال والالتهاب الرئوي، خاصة في بيئة يفتقد فيها المرضى الوصول إلى خدمات الصحة الحيوية. وحتى لو نجا الطفل فيمكن أن يكون للهزال تأثيرات طويلة الأمد حيث يعيق الهزال النمو ويضعف التطور الإدراكي. إن شعب غزة يواجه الجوع والأمراض التي يمكن علاجها بسهولة في وجود نظام صحي فعال؛ لذا يجب توقف تلك المعاناة، ويجب تدفق الغذاء وكل المساعدات الأخرى بكميات أكثر بكثير.
ومن هنا تكرر منظمة الصحة العالمية دعوتها لوقف إطلاق النار الإنساني الفوري. إن الخبراء يقدرون أن عدد الوفيات من الأمراض والجوع قد يكون أضعاف الوفيات من القتال والضربات الجوية. إن إسرائيل من خلال هجماتها المتواصلة على النظام الصحي الفلسطيني في غزة تلحق عمدا بالفلسطينيين في غزة ظروف حياة محسوبة لإحداث دمارهم المؤكد. وقد أبرزت مجموعة من الأطباء في مقال نشر في المجلة الطبية البريطانية (ذا لانست) الأبعاد الصحية للعنف الناجم عن الحصار المستمر والهجمات ضد الفلسطينيين محذرين بحق من خطر جسيم للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.