كتبه/ وائل عبد القادر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن أمثلة الأحاديث النبوية في الجمع بين الوعد والوعيد، والخوف والرجاء: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ) (رواه البخاري).
قال ابن بطال -رحمه الله- في شرح البخاري: "الحديث دليل واضح أن الطاعات الموصلة إلى الجنة، والمعاصي المقربة من النار قد تكون في أيسر الأشياء؛ ألا ترى قوله: -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)؛ فينبغي للمؤمن ألا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا يستقل قليلًا من الشر أن يجتنيه؛ فيحسبه هينًا وهو عند الله عظيم، فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا يعلم السيئة التي يسخط الله عليه بها".
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "معنى الحديث: أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية".
وفى السنة المطهرة أحاديث كثيرة في هذا المعنى، وقد بوَّب الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه: "بَابُ الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ".
قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: "أَيِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ النَّظَرَ فِي الرَّجَاءِ عَنِ الْخَوْفِ، وَلَا فِي الْخَوْفِ عَنِ الرَّجَاءِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ فِي الْأَوَّلِ إِلَى الْمَكْرِ، وَفِي الثَّانِي إِلَى الْقُنُوطِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَذْمُومٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الرَّجَاءِ: أَنَّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فَلْيُحْسِنْ ظَنَّهُ بِاللَّهِ، وَيَرْجُو أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُ ذَنْبَهُ، وَكَذَا مَنْ وَقَعَ مِنْهُ طَاعَةٌ يَرْجُو قَبُولَهَا، وَأَمَّا مَنِ انْهَمَكَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ رَاجِيًا عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِغَيْرِ نَدَمٍ وَلَا إِقْلَاعٍ فَهَذَا فِي غُرُورٍ".
واستدل للترجمة بعدة أحاديث في هذا المعنى.
وخلاصة ذلك: أن الله تعالى يتعبد عباده بالوعد والوعيد المقتضيين للرجاء والخوف، فكان حريًّا بالمومن وهو يسلك طريق التعبد أن يجمع بين الأمرين فهما كجناحي الطائر يحلِّق بهما.
وذلك على قواعد وضعها العلماء؛ منها:
1ـ قال بعض العلماء: إذا كان في طاعة؛ فليغلب الرجاء، وأن الله يقبل منه، وإذا كان على معصية؛ فليغلب الخوف؛ لئلا يتجاسر على المعصية.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "والإنسان ينبغي أن يكون طبيب نفسه، إذا رأى من نفسه أنه أمن من مكر الله، وأنه مقيم على معصية الله، ومتمنٍ على الله الأماني؛ فليعدل عن هذا الطريق، وليسلك طريق الخوف، وإذا رأى أن فيه وسوسة، وأنه يخاف بلا موجب؛ فليعدل عن هذا الطريق وليغلب جانب الرجاء حتى يستوي خوفه ورجاؤه".
وقال بعضهم: يجعل رجاءه وخوفه واحدًا في كل أحواله، واستدل لذلك بحديث رواه الترمذي، وابن ماجه، وغيرهما بسند حسنه الشيخ الألباني: عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ: (كَيْفَ تَجِدُكَ؟) قَالَ: أَرْجُو اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ الَّذِي يَرْجُو، وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ).
جاء في حاشية السندي على ابن ماجه: "قوله: (لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ): يدل على أنه ينبغي وجود الأمرين على الدوام حتى في ذلك الوقت، وأنه لا ينبغي أن يغلب الرجاء في ذلك الوقت، بحيث لا يبقى من الخوف شيء".
ورجح آخرون أن يغلب الخوف حال الصحة، والرجاء حال المرض؛ قال العلائي: "هذا بيان واضح لوقوف العبد بين حالتي الرجاء والخوف، وإن كان الخوف وقت الصحة ينبغي كونه أغلب أحواله؛ لأن تمحض الخوف قد يوقعه في القنوط، فينقله لحالة أشر من الذنوب".
وقال النووي -رحمه الله-: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِلْوَاعِظِ أَنْ يَجْمَعَ فِي مَوْعِظَتِهِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ؛ لئلا يقنط أحد ولا يتكل. قَالُوا: وَلْيَكُنِ التَّخْوِيفُ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ إِلَيْهِ أَحْوَجُ؛ لِمَيْلِهَا إِلَى الرَّجَاءِ وَالرَّاحَةِ وَالِاتِّكَالِ، وَإِهْمَالِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ".