الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 09 أكتوبر 2024 - 6 ربيع الثاني 1446هـ

أدبيات العمل المؤسسي

كتبه/ رجب أبو بسيسة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالعمل المؤسسي يحتاج إلى نفوسٍ قوية تتحمل الأعباء، وتتجرع الأزمات، ولا تتململ مِن النقد، وكواليس الاجتماعات، وفي أحيانٍ كثيرةٍ تساور الإنسانَ خاطرة أن العملَ الجماعي والمؤسسي يمنعه مِن الانطلاق، وأنه روتين وعمل معقد؛ بسبب القيود، والتسلسل الإداري وإجراءاته، إلخ.

وأرى أنَّ كثيرًا مِن الأعمال قد تعطلت، ومحاضنَ تربويةً أُغلقتْ، وكياناتٍ دَعَويَّةً ضعُفت، وأخرى تمزقت بسبب عدم كبحِ جماحِ هذا الشعور، وبسبب إطلاق العنان له.

وفي مثل هذا الجو يحضُرُني قولَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- في نصيحةِ رجلٍ مجربٍ عَايَنَ أمورًا تغيرت: "كَدَرُ الجماعةِ خيرٌ مِن صَفْوِ الفردِ".

وهذا الكلامُ مِن أمير المؤمنين علي كان في زمنِ العلم والديانة والورع، فما بالُكَ بزمانِنا هذا؟! بل ما أظنُّ أن يتحقق الصفو ولا الراحة لمَن ينفرد ويترك إخوانه ودعوته ومؤسسته.

فعلينا أن نتحمل ونصبر، والأجر على قدر المشقة، والمؤمن الذي يخالِط الناس ويصبر، خير وأنجع وأنفع للناس وللمجتمع؛ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

ثم نقول للعامل في العمل المؤسسي: عليك بالعبادات الذاتية، والطاعات الخفية، مع التفكير في عواقب الأمور؛ مثل: خطورة الانزواء، والنزاع وترك العمل؛ فإنما يأكل الذئب مِن الغنم الشاة القاصية حتى ولو كانت قوية، وهذه كلها أمور مِن شأنها أن تعينك على العمل والصبر، وطول النفس.

وحتى تستمر بدون انقطاعٍ، وتواصِل بدون كللٍ، وتعمل في جوٍّ مِن الصفاء والأريحية؛ فعليك بحسن الاستماع والإنصات لإخوانك، وألا تعطي فرصة للشيطان بأن يفسدَ ما بينك وبينهم، فاعتذر لهم إذا أخطأتَ، فالمعذرة دليل عافية وثقة بالنفس؛ ألم يقل عمر: "أصابت امرأة وأخطأ عمر!"، ونحن ننقلها اليوم مدحًا لعمر، وليس انتقاصًا له -رضي الله عنه-، واستعمل حُسنَ الظنِ بهم، والدعاء لهم، ولا تعطي مساحةً لمَن ينقل الكلام ويُثيرُ الفتنةَ والنميمةَ ليُبَغِّضَ إِلَيك إِخوانَك!

وكذلك فهم نفسية المحيطين بك واستشارتهم، وعدم الإقدام على شيءٍ يجعلهم يسيئون الظن بك، وقد كان سيد ولد آدم -عليه السلام- يُراعي ذلك ويهتم به؛ فصح عنه أنه قال لما كان واقفًا مع أم المؤمنين صفية ومر به رجلان من الأنصار فأسرعا: (عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ)؛ حتى لا يسيئان الظن فيهلكان بذلك، وعندما سُئِل عن ذلك قال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا -أَوْ قَالَ: شَيْئًا-) (متفق عليه)؛ فنحن أولى بهذا المعنى.

ومِن المهم أيضًا في العمل المؤسسي وقيادة الناس: تحمل التجاوزات والإساءات مِن بعض الأفراد، واحتساب ذلك عند الله، وفي نفس الوقت إذا رأى أوضاعًا غير صحيحة أن يبادِر إلى تصحيحها، ولكن وفق آداب النصيحة، واختيار المكان والزمان المناسب؛ لا كما يفعل صغار العقل وضيقي الأفق، الذين لا يحلو لهم النقد إلا على صفحات التواصل الاجتماعي أو الثرثرة في المنتديات حتى يخلقوا جوًّا عامًّا مِن الضغوط وتشرذم الأعمال، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا!

والهدف المشترك للعمل وديمومة التذكير به، أمر يساعد على تجاوز الصعاب والتحديات؛ وإلا مِن الخطر أن يعمل كلٌّ منا على هدفه الخاص، وننسى الهدف الأصلي الذي نتعاون عليه؛ فعلى الفرد أن يتعامل في مؤسسته أو دعوته بنفسية أنه صاحب العمل، لا بنفسية موظف وأجير، والفرق واضح لمَن تأمل.

ولا بد مِن وضوح الأهداف والغايات؛ لأن ذلك يؤدي إلى النظر للمستقبل والسعي للأمام، والتطلع للإنجاز، أما الوسائل فيحب ألا نجمد عليها، بل تتغير بحسب الواقع والمعطيات.

فها هو "عبد الحميد بن باديس" لما منعه المندوب السامي الفرنسي مِن الكلام والتدريس في المساجد؛ قال له بكل إصرار وتمسك بالهدف غير جامد على وسيلة بعينها: "أيها الحاكم! إنك لن تستطيع إخماد أصواتنا مهما فعلتَ! فاستشاط غضبًا، وقال: كيف لا أستطيع؟ فقال له: إذا كنتَ في عرسٍ علَّمتُ أحدَ الحاضرين، وإذا كنتُ في عزاء وعظتُ أحد المعزين، وإذا جلستُ في قطار كلمتُ أحد المسافرين، وإن دخلت السجن أرشدت أحد المسجونين وإن قتلتموني التهبت مشاعر المواطنين! وخير لكم أيها الحاكم ألا تتعرضوا لهذه الأمة في دينها ولغتها!".

تأمل الإصرار على العمل وعدم الجمود على الوسائل، ونحن على يقين أنه لا يُغلق باب إلا وتفتح أبواب -بإذن الله-.

أيها الجيل... دعوتنا هي كياننا الذي تربينا فيه على اتباع منهج الإسلام الصافي؛ فيجب أن نحافِظ عليها مما قد يشوبها.

ومِن أقوى وسائل المحافظة بعد توفيق الله: متابعة المنهج، وطلب العلم، والاجتماع والتعاون، والصبر على طبيعة العمل الجماعي وعدم التفرد، ومَن يتصبر يصبره الله.

وأخيرًا: ما أجمل طلب العون مِن الله حتى تتحمل النفس مشقة هذا العمل، والموفَّق مَن وفَّقه الله، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ، وأفرغ علينا صبرًا، وثبت أقدامنا، ولله الأمر مِن قبْلُ ومِن بعد.

ولنا أمل.