كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- الغيرة على الحريم خلق كريم، يتصف به الكرام، وهو شعور غريزي يجعله الله في نفوس الصالحين، وبه لا يحبون أن ينظر الرجال إلى حريمهم أو يخالطونهن: "خطب علي بن أبي طالب في الناس يومًا -وقد بلغه إكثار النساء من الخروج إلى الأسواق- فقال: "ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته بين الرجال تنظر إليهم، وينظرون اليها". وفي رواية: "إنه لا خير فيمن لا يغار" (المسند). قال النحاس رحمه الله: "الغيرة هي أن يحمي الرجل زوجته وغيرها من قرابته، ويمنع أن يدخل عليهن، أو يراهن غير محرم" (نقلًا عن عودة الحجاب).
- حاجتنا إلى شيوع خلق الغيرة على الحريم في هذا الزمان الذي ضعفت أو ماتت فيه الغيرة في قلوب كثير من الرجال: (صور من ذلك: الرضا بخروج النساء متبرجات متعطرات إلى الشوارع والطرقات - الرضا بدخول العمال والصناع والأقارب على النساء في غياب المحارم - الرضا بسفر النساء في الرحلات والاقامة بدون محرم - الرضا بمشاهدة المسلسلات والأفلام الهادمة لكل فضيلة - الرضا بالاختلاط في الزيارات والحفلات والنوادي - الرضا برقص النساء أمام الرجال في الأفراح - الرضا بتعري النساء على شواطئ البحور - الرضا بالمهاتفات التليفونية بين النساء وغير المحارم -...) .
فضل الغيرة على الحريم:
- الغيرة على الحريم من صفات المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللهُ) (متفق عليه).
- الغيرة على الحريم دليل على علو الايمان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ) (متفق عليه).
- الدفاع عن الحريم والعرض جهاد يبذل من أجله الدم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني).
- بل الغيرة على الحريم شعور غريزي عند أكثر الحيوان: عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم" (رواه البخاري).
- الذي لا يغار على حريمه ديوث في الدنيا، متوعد بالعقاب في الآخرة: قال العلماء: "الديوث الذي لا غيرة له على أهل بيته" (النهاية في غريب الحديث نقلًا عن عودة الحجاب). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ بوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجِلَةُ النِّسَاءِ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
نماذج من غيرة الصالحين:
- غيرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ، امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا بِلَالٌ، وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لِعُمَرَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ)، فَقَالَ عُمَرُ: بِأُمِّي وَأَبِي يَا رَسُولَ اللهِ، أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟! (متفق عليه).
- غيرة الزبير -رضي الله عنه-: ذكر أبو عمر في التمهيد: "أن عمر -رضي الله عنه- لما خطب عاتكة بنت زيد، شرطت عليه ألا يضربها، ولا يمنعها من الحق، ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيل عليها أن كمن لها لما خرجت إلى صلاة العشاء، فلما مرت به ضرب على عجيزتها، فلما رجعت قالت: إن لله، فسد الناس، فلم تخرج بعد" (أُسْد الغابة نقلًا عن عودة الحجاب)(1).
- غيرة رجل صالح -رحمه الله-: قال ابن كثير في حوادث سنة 286هـ: "من عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة، ان امرأة تقدمت إلى قاضي الري، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به. فقال القاضي: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم انها الزوجة أم لا؟ فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه؛ فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حلٍّ من صداقي عليه في الدنيا والآخرة". وزاد الحافظ السمعاني في الانساب: "فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يكتب هذا في مكارم الأخلاق" (انتهى من البداية والنهاية).
الغيرة صنعت أحداثاً:
- الغَيْرَة على الحريم كانت سببًا في تحريك الجيوش، وبذل النفوس؛ حيث كانت سببًا في غزوة بني قينقاع: ذكر ابن هشام في السيرة: "كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك منهم، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت المرأة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًّا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ اهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع" (السيرة النبوية لابن هشام).
- الغَيْرَة على الحريم كانت سببًا في فتح عمورية (أعز بلاد الروم): وقعت هذه المعركة بين المسلمين بقيادة المعتصم الخليفة العباسي وبين الروم، وذلك بعد أن استنجدت امرأة بالمعتصم فصرخت: "وامعتصماه"، فسمع المعتصم بالخبر وجهز جيشًا وفتح عمورية، وقيل له: إن امرأة هاشمية من الأسرى صرخت عندما أسرها الروم (وامعتصماه)، فأجابها من موضعه عندما بلغه ذلك (لبيكِ.. لبيكِ)، ونهض من ساعته وأمر بالنفير لحرب الروم، وجهز جيشًا لم يجهزه خليفة قبله، ووجَّه فرقة من هذا الجيش يقودها ثلاثة من أشجع قواده إلى (زِبَطْرة) لإعانة أهلها فوجدوا ملك الروم قد غادرها بجيوشه، فاستقروا بها قليلًا، وأرسلوا إلى الأطراف يطمئنون أهلها أن جيوش الإسلام قد وصلت إلى بلادهم، وأن الروم قد خرجوا منها، فعاد الناس إلى قراهم واستقروا بها، سأل المعتصم القادة: أي بلاد الروم أحصن وأمنع؟ فقيل له عمورية، لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية، ففتحها. (انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبري).
- حاكم مصر الفاطمي -الشيعي- يستنجد بوالي الشام -السني- "نور الدين زنكي" بإرسال بعض خصلات من شعور نسائه، وكتب فيها: "استنقذ نسائي من أيدي الفرنج" فقام بنصرته رغم مخالفته له، وكان ذلك سببًا في عودة مصر الى المنهج السني بعد ذلك" (البداية والنهاية).
خاتمة: أولياء النساء.. أنتم مسئولون:
- أنتم مسئولون في الدنيا عن حفظهن بتعاليم الإسلام: (الحجاب - منع الاختلاط المحرم - إقامة تعاليم الإسلام عمومًا): قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب:59). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهُ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَحَفَظَ أَمْ ضَيَّعَ؟!) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).
- وأنتم مسئولون في الآخرة عن حفظهن وأنفسكم من العذاب: وقال -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6).
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدى لأحسنها إلا أنت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومما يذكر حول غيرة الزبير -رضي الله عنه- حديث أسماء -رضي الله عنها- في حملها النوى على رأسها ولقائها بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، قالت: "تزوجني الزبيرُ ومالَه في الأرضِ من مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيٍء، غيرَ فرسِه. قالت: فكنتُ أعلفُ فرسَه، وأكفيهِ مؤنتَه، وأسُوسُه، وأدقُّ النوى لناضحِه، وأعلفُه، وأستقي الماءَ، وأخرزُ غربَه، وأعجنُ. ولم أكن أُحسنُ أخبزُ. وكان يخبزُ لي جاراتٌ من الأنصارِ. وكن نسوةَ صدقٍ. قالت: وكنتُ أنقلُ النوى، من أرضِ الزبيرِ التي أقطعَه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: على رأسي، وهي على ثلثيْ فرسخٍ. قالت: فجئتُ يومًا والنوى على رأسي. فلقيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ومعَهُ نفرٌ من أصحابِه. فدعاني ثم قال: (إِخْ! إِخْ)، ليحملني خلفَه. قالت: فاستحييتُ وعرفتُ غيرَتَكَ. فقال: واللهِ! لحمْلُكِ النوى على رأسِكِ أشدُّ من ركوبِكِ معَه. قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكرٍ، بعد ذلك، بخادمٍ، فكفَتْني سياسةَ الفرسِ. فكأنما أعتقتْني" (رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم).