كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
سبق أن بيَّنَّا في مقال سابق خلاصة ما نراه في تحليل طبيعة علاقة إيران بالغرب؛
وهي: أن التشيع وما ينطوي عليه من الكراهية الشديدة لأهل السُّنة يدفعها للتحالف معه ضد أهل السُّنة، والغرب بطبيعة الحال يرحِّب بهذا الحلف ويستثمره، بينما القومية الفارسية تدفع إيران للحرص على منافسة الغرب، والذي لا يرحب بترك أي مساحة لأي منافس حضاري.
وحيث إن القضية الفلسطينية تمثِّل قضية محورية للجميع، ومِن ثَمَّ دخلتها إيران ودعمت بعض فصائل المقاومة السُّنية؛ رغبة في امتلاك ورقة تفاوضية في تنافسها مع الغرب، ومِن ثَمَّ فلا عجب أن تجد بين الحين والآخر ضربات موجَّهة من أمريكا لإيران، أو لبعض حلفائها.
ولو حللنا أبرز ثلاثة اغتيالات في الآونة الأخيرة، وهم:
1- قتل قاسم سليماني أحد أبرز قادة الحرس الثوري ومجرميه.
2- اغتيال إسماعيل هنية -رحمه الله- أثناء وجوده في إيران، وبالتالي فهي ضربة تعتبر موجَّهة لإيران، بل الطبيعي أن تكون هي الأشد إيلامًا للكرمة الإيرانية، من باب: أنها تمت داخل إيران.
3- قتل حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله.
والآن فلنحلل رد الفعل الإيراني على كلِّ حدث من الثلاثة.
أولًا: مقتل سليماني:
قامت إيران على إثر هذا بتوجيه ضربة صاروخية رمزية لموقع عسكري أمريكي في العراق لم تسفر عن خسائر في الأرواح! وبالطبع فهذا الرد يبدو شديد التواضع مقارنة بما تلهج به إيران دائمًا بأنها تقود محور المقاومة.
ثم زاد الطين بلة ما أعلنه "ترامب" من أن إيران استأذنت في هذه الضربة ونسقَّت بحيث لا ينتج عنها خسائر، وهو التصريح الذي لم تنفهِ إيران، والواقع يؤكده؛ حيث إن هذه الصواريخ لم يترتب عليها أي ضرر ملموس على الأرض.
ومع هذا يظل هذا الأمر مستساغًا لو وضعتَ أمامك الصورة كاملة؛ وهي: أن المساحات المشتركة بين إيران والغرب أكثر من نقاط الصراع بينهما، وأن الطرفين يحرصان على ألا يؤدي الصراع بينهما إلى خسارة الحلف الإستراتيجي القائم بينهما ضد أهل السُّنة.
وبالطبع، يبعد أن يُفسَّر القتل هنا ويرد عليه بقصف صاروخي بأنه "محض تمثيلية"، وأنه لا خلاف بينهما البتة، لأن القتيل له كانت له أهمية كبرى في صناعة أذرع إيران المختلفة في المنطقة.
والأبعد من هذا بكثير هو: الإصرار -رغم كل ذلك- على أن إيران تتعامل مع أمريكا على أنها الشيطان الأكبر؛ فضلًا عن تسفيه كل دعاوى وجوب مراعاة المصالح والمفاسد حتى في الصراع مع الأعداء، مدعين أن معايير البطولة تقتضي المواجهة الشاملة كما تفعل إيران، في حين أن إيران تحسب، بل تنسِّق مع خصمها حتى في حالة ردِّ الاعتداء.
ثم ملاحظة أخرى لا بد أن تقف عندها، وهي: أن قادة إيران يتعاملون مع أي مواجهة على الأرض الإيرانية على أنها بلادهم ويعيش عليها شعبهم، وأن المواجهات العسكرية لا تدار بطريقة "اضرب واجرِ"، بل لا بد من معرفة كيف سيكون رد الفعل، وكيف سيتم التعامل معه، وكيف ستدار شؤون المدنيين من أمنهم وسلامتهم وتدبير معايشهم.
بينما يزرعون في البلاد الأخرى أذرعًا تعمل بطريقة حرب العصابات، تبني خنادق للجنود والمقذوفات الخفيفة، وتوجه ضرباتها الخاطفة ثم تختفي، وليدك العدو بعدها المدن، ويدمِّر المرافق ويحاصر السكان، وهم في خنادقهم يخرجون ليضربوا ضرباتهم الخاطفة ثم يعودون
بل تشدَّق حزب الله بأن كل هذا يدخل في مسؤوليات الدولة اللبنانية، وهو يعلم أنها لا تملك ما تحارب به، وأنه لا يشركها في قرارات حربه وسلمه.
(الأمر قد يبدو قريبًا من هذا في حق المقاومة الفلسطينية، مع الفارق: أن أرضهم محتلة بالفعل، وأن العدو يمارس العدوان الممنهج على السكان في القدس والضفة، ويهدم البيوت، ويعتقل الرجال والشباب، والنساء والأطفال، وبالتالي: فمن الطبيعي أن يكون لهم قدر من الحسابات الخاصة؛ بيد أن هذا البعد لا ينبغي أن يغيب عنهم حتى مع تلك الحالة الخاصة).
ولكن الكلام هنا عن الأذرع الإيرانية: التي تدار بأسلوب حرب العصابات، والأدهى أنها لا تتحرك إلا متى احتاجت إيران إلى توجيه ضربة لتحسن بها موقفها التفاوضي مع الغرب؛ لا سيما في الملف النووي، فتتحرك تلك الأذرع دون أن تحسب أي حساب لردود الأفعال؛ لا سيما فيما يتعلق بالمدنيين، ولتدفع الشعوب الإسلامية ضريبة التفاوض الإيراني، بينما الشعب الإيراني نفسه قد حسبت حكومته حساباتها وتجنَّبت الرعونات، وأبعدت الصراع قدر الإمكان عن أراضيها.
ثانيًا: اغتيال إسماعيل هنية -رحمه الله-:
(ويبدو أن اختراق أجهزة البيجر التي كشف عنها لاحقًا قد سهَّل لهم هذه الجريمة)، ولكن الذي يعنينا أن هذا الاغتيال يمثِّل عدوانًا مباشرًا على إيران لكونه تم على أراضيها، ومع ذلك ظلت إيران وحسن نصر الله يتوعدان بالرد، ولكن بلا أي رد فعلي! ويبدو أن كون القتيل سنيًّا برَّد أثر الصدمة جدًّا على الإدارة الإيرانية، فجاء رد فعلهم على اغتيال هنية -رحمه الله- منسجمًا مع موقفهم من غزة على مدار عام كامل؛ فطوال هذا العام وجدنا إيران وحزب الله يتوعدان بالتدخل، ولم يحدث إلا تدخل محدود للغاية من حزب الله، ومثله تدخل محدود من الحوثيين؛ ضَرَّ مصر، ولم يمس إسرائيل بأي سوء!
ثالثًا: اغتيال حسن نصر الله:
جاءت قضية اختراق إسرائيل لأجهزة البيجر الخاصة بحزب الله، والحرس الثوري الإيراني؛ حيث استطاعت إسرائيل أن تزرع في هذه الأجهزة دوائر تجسس ودوائر تفجير، فتجسَّست وحصلت على معلومات، فلما أحسَّت بأن أمر التجسس شارف على الافتضاح، أخذت المكسب الآخر؛ وهو: تفجير هذه الأجهزة، فقتلت مَن قتلت من قيادات حزب الله.
ثم أكملت المشهد باغتيال حسن نصر الله (وهذا كله يدخل في أن إسرائيل ترغب دائمًا في قصقصة ريش حزب الله).
ثم لما اغتالت إسرائيل "حسن نصر الله"، قرَّرت إيران الرد، واضطرت إلى التصريح بأنها تفاهمت مع الغرب ألا ترد على اغتيال إسماعيل هنية رحمه الله مقابل الضغط على إسرائيل لإنهاء حرب غزة!
سنصدق أن المقابل كان شريفًا، ولكن لماذا إذًا الخداع الإعلامي بـ"انتظروا الرد المزلزل!"؟
وتوقيت هذا الإعلان جاء بعد مقتل حسن نصر الله، وغالب الظن: أن إيران كانت قد طوت صفحة اغتيال هنية باعتباره حدثًا لا يرقى إلى أن ترد عسكريًّا، ولكن لما اغتيل حسن نصر الله، وهو مواطن لبناني، والاغتيال تم على أرض لبنانية، أرادت أن تبحث عن مبرر قانوني للرد، فاستدعت مقتل هنية لتبرر بها ردة فعل على إسرائيل؛ فالرد يخص اغتيال حسن نصر الله، أما اغتيال هنية فقد مرَّ مرور الكرام.
ثم جاء الرد عبارة عن إطلاق 300 صاروخ، دلت صورهم بعد سقوطهم على أنهم كانوا خاليين من المتفجرات، وسارع الجانبان: الإيراني والأمريكي إلى توضيح أن الأمر تم بتنسيق ما بين أمريكا وإيران؛ فهل هذه الصواريخ لا تمثِّل أي نكاية في إسرائيل؟
الواقع أنها تمثِّل بما سببته من ذعر ولجوء السكان إلى المخابئ.
وهل التنسيق مع أمريكا يعني التنسيق مع إسرائيل؟
لا أظن؛ لأن طبيعة نتنياهو لم تكن لتقبل بهذا الإجراء، ولو كان رمزيًّا.
وهل معنى التنسيق مع أمريكا أنها راضية عن هذا الرد؟
لا يلزم، ولكن -على الأقل- سيكون تم تفاهم إيراني أمريكي أن هذا الرد الرمزي لا يقتضي تدخلًا أمريكيًّا مباشرًا.
ويعني في النهاية: أن الذي يغلب على الظن هو: أن كل التصرفات الإيرانية والأمريكية تبيِّن أن الحلف القائم بينهما ضد أهل السُّنة غالبًا ما يمثِّل "رمانة ميزان" في ضبط أي خلاف بين إيران وأمريكا مباشرة، أو بين إيران وإسرائيل. وأن حرص إيران على أذرعها الشيعية أضعاف أضعاف حرصها على أي فصيل سني يتعاون معها.
وأن هذه الأذرع تحيط بإسرائيل، لكنها لا تتحرك إلا إذا احتاجت إيران؛ أما إذا احتاجت فلسطين، فيدرسون ثم يدرسون، ثم يرصدون ثم يهددون، ثم يتوعدون، ثم يرسلون صواريخ لا تكاد تُحدِث أثرًا، كما رأينا عبر عام كامل منذ 7 أكتوبر 2023 حتى تاريخه.
نسأل الله أن يُهيئ لهذه الأمة من أمرها رشدًا، تواجه به أعداءها، وتقاوم به أفكار المبتدعة التي فرَّقت شمل الأمة، وأن يجمعها على العمل بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والتمسك بهدي الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم أجمعين-.