الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 17 صفر 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (175) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (4)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌إِنَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً ‌قَانِتًا ‌لِلَّهِ ‌حَنِيفًا ‌وَلَمْ ‌يَكُ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).

 الفائدة الثالثة:

قوله -تعالى-: (‌قَانِتًا) أي: مطيعًا لله عابدًا؛ فدل على أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بطاعة الله -عز وجل- وعبادته؛ فكثرة العبادة بمفهومها الواسع؛ لأنها اسم جامع لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، والعقائد والتروك الظاهرة والباطنة، وبمفهومها الخاص بكثرة الصلاة والقيام والصيام والزكاة والصدقة والحج والعمرة، والذكر والاستغفار، وتلاوة القرآن، وغيرها - سببٌ لنيل الإمامة في الدين.

وأما من ترأس على قوم دون تحقيق الطاعة والعبادة؛ فإنها تكون إمامة دنيوية لا تغني عن صاحبها شيئًا، بل تكون مسئولية عظيمة بين يدي الله غدًا يوم القيامة، ومسألة شديدة عن كل واحدٍ من الرعية والأتباع، وكذا في الإمامة الحاصلة بالدعوة وتعليم الناس؛ فلا بد أن تكون مصحوبة بالعبادة؛ وإلا كانت إمامة شكلية وبالًا على صاحبها ليست حقيقية؛ لأن كثرة الأمراض القلبية التي تتعلق بالشهرة والجاه، وحب الرياسة، والرياء والسمعة، مرتبطة بالدعوة والتعليم ارتباطًا خطيرًا؛ إن لم تهذب وينقى القلب منها؛ صارت أعظم الضرر على صاحبها، وهو يظن نفسه من أعلى الناس مقامه، بل تمتنع الإمامة الدينية الحقيقية؛ بسبب هذه الأمراض وقلة العبادة.

الفائدة الرابعة:

قوله -تعالى-: (‌حَنِيفًا) وهو: المائل إلى الله المعرض عن غيره، فالحنيفية ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ قال الله -عز وجل-: (‌فَأَقِمْ ‌وَجْهَكَ ‌لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 30-32).

وهي متضمنة لحب الله -عز وجل- والشوق إليه، والخضوع له، وهذا يستلزم كل عبادات القلب من الخوف والرجاء، والتوكل، والإنابة، والتوبة، والذكر، وإرادة وجهه والإخلاص له، والصبر على طاعته وعن معصيته، وعلى أقدار الله المؤلمة، والحب فيه لأنبيائه وأوليائه، والبغض فيه لأعدائه من الكفار والمنافقين، والشكر لنعمه، والرضا به ربًّا وإلهًا، والرضا بدينه دون ما سواه من الأديان، والرضا بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-.

كل هذه العبادات متفرعة من الحب والخضوع، ومتلازمة معهما؛ يزول الإيمان بزوال شيء منها بالكلية، وينقص بنقصها، وأما الإعراض عمن سواه -سبحانه-؛ فهو يقتضي البراءة من الشرك وأهله، مع تركه وإبائه من نفس العبد، ومن غيره من المخلوقين؛ فلا يكون حنيفًا من أقر بصحة الشرك ولو من غيره، أو بتصحيح ملة غير ملة الإسلام، ولا يكون موحدًا من صحح عبادة غير الله، أو صحح ملة من كذب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل من كذب أي نبي من الأنبياء.

ولذا كانت الدعاوى المعاصرة لمساواة الأديان، أو حتى لمساواة اليهودية والنصرانية والإسلام، دعوات كفرية شركية تنافي الحنيفية الدين الإبراهيمي الحق؛ لا المزور الكاذب، ولا يوجد شيء اسمه العائلة الإبراهيمية يضم الأديان الثلاثة، ولا يجوز أن تُبنى معابد تجمع أصحاب الأديان الثلاثة فيها، ويزعمون أنه بيت العائلة الإبراهيمية!

فنحن أبرياء من كل مَن كذَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذب القرآن، ولا تصح عبادتهم لله -عز وجل- مع كفرهم بالقرآن العظيم، ولا يجوز لنا أن نصفها بأنها دور عبادة لله -سبحانه وتعالى-، بل هي أماكن الشرك والكفر والتكذيب لرسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فلا بد لكل مسلم أن يعي هذه الحقيقة، وأن يتبرأ تبرأ تامًّا من هذه الفكرة الخبيثة -ما يسمونه بالدين الإبراهيمي والمسار الإبراهيمي والعائلة الإبراهيمية-؛ فإنها كلها خارجة عن دين الاسلام ومناقضة للحنيفية التي بُعِث بها النبي -عليه الصلاة والسلام- اتباعا لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.