الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (174) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (3)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
الفائدة الثانية:
قال القرطبي -رحمة الله- في تفسير قوله -تعالى-: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، في المسألة الحادية والعشرين: "استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا ينازعوا الأمر أهله، على ما تقدم من القول فيه؛ فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل؛ لقوله -تعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (قلتُ: المقصود بذلك: أن لا يولوا ابتداءً، وأما إذا طرأ عليهم الفسق؛ فلا ينعزلون بمجرده حتى يعزلهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة المصالح والمفاسد).
قال: ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي -رضي الله عنهم-، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة (قلتُ: ورغم اتفاق العلماء على الظلم الذي وقع على أهل المدينة في واقعة الحرة وإجماعهم على أن الحسين بن علي قتل مظلومًا، وعلى أن ابن الزبير قتل مظلومًا؛ إلا أنهم يخطئون مَن خرجوا على الحاكم الظالم لأجل المفاسد التي تقع، فكان هذا اجتهادًا خاطئًا، وانعقد الاتفاق بعد ذلك على عدم الخروج؛ إلا لو كانت مفسدة الخروج أقل من مفسدة الصبر).
قال: والذي عليه الأكثر من العلماء: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج؛ فاعلمه (قلتُ: الذي يظهر أن كلام السلف في المنع من الخروج، هو في حالة كثرة المفاسد على مفسدة الصبر، وهذا هو الأغلب الأعم، وهم لا يختلفون أنه إذا زادت المفسدة على المصلحة؛ فلا بد من ترك الذي فيه مفسدة).
قال: الثانية والعشرون: قال ابن خويز منداد: وكل مَن كان ظالمًا لم يكن نبيًّا، ولا خليفة ولا حاكمًا، ولا مفتيًا، ولا إمام صلاة، ولا يُقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تُقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدَّم من أحكامه موافقًا للصواب ماضٍ غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة؛ أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجهًا من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع أو يخالفوا النصوص؛ وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم، ولم يُنقَل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئًا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة، ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا؛ فدلَّ على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم (قلتُ: والمقصود بذلك: ما فعلوه في أهل طاعته؛ فإنهم في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكن لهم دولة مستقرة، وإنما كانوا ينفِّذون ذلك في أهل طاعتهم من الخوارج أمثالهم).
قال: الثالثة والعشرون: قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة؛ فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذًا على موجب الشريعة؛ فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطًا حلالًا وظلمًا، كما في أيدي الأمراء اليوم؛ فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلصٍّ في يده مال مسروق، ومال جيد حلال، وقد وكَّله فيه رجل، فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق إذا لم يكن شيء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحًا لازمًا -وإن كان الورع التنزه عنه-؛ وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها، وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلمًا صراحًا؛ فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم. (قلتُ: وهذا هو الحال الثالث فيما ذكر).
ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبًا، غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وُجِد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويُجعَل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين" (انتهى من تفسير القرطبي، وذكرناه هنا لعظيم فائدته).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.